شهد أنور
نحن نعيشُ في عصر إعادة الترجمة، فنسخ جديدة من الكلاسيكيَّات تظهر بانتظام إلى حدٍ ما، وطبعًا متى انتهت حقوق النشر ذات السبعين عامًا بعد وفاة كاتب يظهر فيضان من الترجمات الجديدة، وقد تمَّ ترجمة أعمال بروست وتوماس مان للإنجليزيَّة بينما بدأت أعمال كُتَّاب مثل إف. سكوت فيتزجيرالد وفرجينيا وولف ودي. إش لورانس تظهر بنسخ جديدة في أوروبا.
المنطق وراء هذه الظاهرة واضح، فالترجمة تعكس لغة وأسلوب زمنها إلى حد ما، وبالنسبة للأجيال اللاحقة، تبدو ترجمة ما مثيرة لذكريات ثقافتنا السابقة وليس ثقافة العمل الذي تأصَّل فيها، انظُر مثلًا لإليادة بوب:
غضبُ أخيلس نهض فظيعًا لليونان
مُغنيًا، يا إلهي، عن أهوال غير معدودة!
كيف بإمكان أحدهم أن يُفكِّر بشيء آخر سوى الشعر الإنجليزي في القرن الثامن عشر؟ كيف لا يُمكن له ألا يشعر بسهولة قراءة نسخة إيان جونسون لعام 2010:
غنِّ، يا إلهي، غنِّ عن غضب أخيلس ابن بيليس—
ذاك الغضب القاتل الذي حكم على أخيلس بعذاب لا ينتهي
أو قارن “جحيم” ريفيرد كاري الذي نُشر في 1805:
في مُنتصف حياتنا الفانية،
وجدتُ نفسي في غابة كئيبة تائهًا
ضائعًا عن الطريق المُستقيم
بترجمة روبرت هولاندر لعام 2000:
في مُنتصف رحلة حياتنا،
وجدتُ نفسي في غابة مُظلمة،
لأنَّ الطريق المُستقيم ضاع
في كلتا الحالتين نشعر بأنَّه تم إزالة عائق في وجه القراءة، حيثُ يعمل مُترجمنا على تحويل نص قديم للأسلوب حديث مع احترام عُمر النص وبُعده.
ولكن هل الترجمات الجديدة دائمًا أفضل، أو دائمًا يُمكن تطبيقها؟ قبل فترة، طُلِب مني أن أُترجم “ديكاميرون”، ومع أن طلبًا كهذا يُعتبر شرفًا ومسؤوليَّة واستثمارًا ضخمًا في الوقت، فطبعة دار نشر بينغويم للكلاسيكيَّات يمتدُّ طولها لحوالي أكثر من ألف صفحة، ولذلك قبل إعطاءي لإجابة فكَّرتُ أن أحاول ترجمة بعض المقاطع لنفسي، وهذا مقطع من القصَّة الرابعة من اليوم الأوَّل يعرفُ فيها راهب صغير السن أن رئيس الدير قد رآى محاولته لممارسة الحب مع فتاة تم تهريبها لزنزانته، ولذلك يضع خُطَّة لكي يجد رئيس الدير الفتاة وحدها آملًا أن يقوم بذات الخطيئة، ترجمتها هكذا:
عندما رأت الفتاة رئيس الدير يدخل جُنَّت وبدأت تبكي خائفة من أن تُفضح، وعندما رآها رئيس الدير العجوز صغيرة السن ونضرة، شعرَ بذات الحاجة الجسديَّة الحارَّة التي شعرَ بها الراهب الصغير وقال لنفسه:” حسنًا، لمَ لا تُمتِّع نفسك بينما بإمكانك ذلك؟ فالمتاعب والخلافات دائمًا موجودة إن كان هذا ما تريده، هي فتاة جميلة ولا يعلم أحد أنَّها هُنا وإن تمكَّنتُ من جعلها تمنحني وقتًا طيِّبًا لا أرى لمَ لا يجُب عليَّ ذلك، من سيعرف؟ لا أحد أبدًا، وخطيئة مخفية نصف مسامحة، كما أن فرصة كهذه لن تأتيكَ أبدًا مُجدَّدًا لذلك من الحكمة برأيي أن تستمتع بما أرسله لك الله.
كان هذا أقرب شيء استطعتُ إيجاده لدلالات الألفاظ الأصليَّة ولكن يبدو أنه قد تمَّ تجريده من كل طاقة القرن الرابع عشر، فتعبير مثل “حاجة جسديَّة حارَّة” و”متاعب وخلافات” أو المَثَل “خطيئة مخفية نصف مسامحة” تبدو مُزيَّفة نوعًا ما أو طريفة، بدل أن تكون أصليَّة ومُفعمة بالحيويَّة، كما أنَّني تحقَّقتُ من ترجمات حديثة أُخرى لأرى إن كانت مُختلفة بشكل ملحوظ، فلنُلقي نظرة على ترجمة جي . إتش ماكويليام لعام 1972، والتي لا تزال دار نشر بينغويليوم للكلاسيكيَّات تعتمدها حاليًّا:
ارتعبت الفتاة كأنها فقدت عقلها عندما رأت رئيس الدير قادمًا وبدأت تبكي من الخجل، وعندما نظر السيد رئيس الدير إليها وجدها فتاة لطيفة وجميلة، وبالرغم من كِبَرِ سنِّه ملئته فورًا شهوات جسديَّة ليست أقل من تلك التي جرَّبها الراهب الصغير، وبدأ يقول لنفسه: “حسنًا، حسنًا! لمَ لا أُمتِّع نفسي قليلًا بينما لدي الفُرصة؟ فبعد كُل شيء، أستطيع أن أحظى بالندم والمتاعب متى أردتُ، إنَّها فتاة جميلة ولا يعرفُ أحد أنَّها هُنا، وأن استطعتُ أن أُقنعها أن تلعب لُعبتي لا أرى سببًا يمنعني من ذلك، فمن سيعلم؟ لن يكتشف ذلك أحد، وخطيئة نصف مخفيَّة نصف مُسامحة، فقد لا تأتيني فرصة جيِّدة كهذه أبدًا، إنَّها دائمًا فكرة جيِّدة برأيي أن نقبل أي هديَّة يضعها الله في طريقنا.
تكمن المشكلة في أن أكبر جزء من مُتعة قراءة ديكاميرون تأتي من الشعور ببعد ولكن قُرب اللغة من الإيطاليَّة الحديثة، وجعلها مباشرة بشكل مُفاجئ يجعلها فظَّة تقريبًا، فليس فيها من جمال. هذا النص الأصلي:
La giovane vedendo venir l’abate tutta smarrì, e temendo di vergogna cominciò a piagnere. Messer l’abate, postole l’occhio adosso e veggendola bella e fresca, ancora che vecchio fosse sentì subitamente non meno cocenti gli stimoli della carne che sentiti avesse il suo giovane monaco; e fra se stesso cominciò a dire: “Deh, perché non prendo io del piacere quando io ne posso avere, con ciò sia cosa che il dispiacere e la noia, sempre che io ne vorrò, sieno apparecchiati? Costei è una bella giovane e è qui che niuna persona del mondo il sa: se io la posso recare a fare i piacer miei, io non so perché io nol mi faccia. Chi il saprà? Egli nol saprà persona mai, e peccato celato è mezzo perdonato. Questo caso non avverrà forse mai più: io estimo ch’egli sia gran senno a pigliarsi del bene, quando Domenedio ne manda altrui.
مكوَّنة من 149 كلمة سريعة ولكن مرنة وعندما تتحرَّك نحو الفجور (veggendola bella e fresca) أو المثل (peccato celato è mezzo perdonato) يبدو أنَّها تتسق معًا، حتَّى أنَّها على قافية واحدة، اللغة والمُحتوى ودلالات الألفاظ تنسجم، وعندما بحثتُ عن نسخة بالإيطاليَّة الحديثة (لأنَّ الأمر كما مع تشاوسير، هُناك نُسخ حديثة)، وحظيتُ بذات الانطباع الذي أعطتني إياه نُسختي، بدا الأمر صحيحًا؛ أنَّ كُل الطاقة قد اختفت، ولكنَّ ما جعلني أقبل الطلب أخيرًا هو اكتشافي لأوَّل ترجمة للمقطع نفسه في نُسخة جون فلوريو لعام 1620.
كان فلوريو، كما نتذكَّر، أوَّل مُترجم لـ”مونتاجين”، وقد كان أبوه أوَّل راهب فرانشيسكي، كما أنَّ البعض يقترح أنَّه كان ويليام شيكسبير ذاته، وهذه هي ترجمته:
But finding it to be the Lord Abbot, shee fell on her knees weeping, as fearing now to receive publike shame, by being betrayed in this unkinde manner. My Lord Abbot looking demurely on the Maide, and perceiving her to be faire, feate, and lovely; felt immediately (although he was olde) no lesse spurring on to fleshly desires, then the young Monke before had done; whereupon he beganne to conferre thus privately with himselfe. Why should I not take pleasure, when I may freely have it? Cares and molestations I endure every day, but sildome find such delights prepared for me. This is a delicate sweete young Damosell, and here is no eye that can discover me. If I can enduce her to doe as I would have her, I know no reason why I should gaine-say it. No man can know it, or any tongue blaze it abroade; and sinne so concealed, is halfe pardoned. Such a faire fortune as this is, perhaps hereafter will never befall me; and therefore I hold it wisedome, to take such a benefit when a man may enjoy it.
عند قرائتي لهذا حظيتُ بذات المُتعة التي حظيتُ بها وأنا أقرأ بوكاتشيو بالإيطاليَّة وإن كانت قد ظهرت بعد حوالي ثلاثمئة سنة تقريبًا من الوقت الذي كُتبت فيه الأصليَّة، فباستطاعته إيجاد اللفظ المطلوب بالضبط في إنجليزيَّة زمنه، ومهما كان المُترجم جيِّدًا acheter du cialis en ligne أشكُّ بقدرته على الوصول لذات المستوى من الإقناع، وأنا بالتأكيد لم أشعر بقدرتي على الوصول إليه.
رُبَّما تكون هذه النظرة للزمن خاطئة لعدم قُدرتي على الحكُم على اللغة المكتوبة قديمًا جدًّا، ولكنني لا أعتقد ذلك، وأظن أنَّ ما يقترحه هذا هو أهميَّة إيجاد المُترجم الصحيح للترجمة الأولى للعمل الأدبي، مُترجم لديه أُلفة أصيلة مع أسلوب العمل الأصلي وفوق كل شيء يستطيع أن يُجذِّره في أدبنا نحن في اللحظة التي يُصبح فيها منطقيًّا، عندما تستطيع الثقافة أن تستقبلها بلفظها الخاص.
في إيطاليا، وفي ظل زوال حقوق النشر عن كتابات فولكنر، كان هُناك عدد من الترجمات الجديدة لأعماله التي بدون شك أدق من حيث دلالة الألفاظ من تلك التي تُرجمت في الأربعينيَّات والخمسينيَّات، ومع هذا، فإنّ هذه الترجمات القديمة، التي وُضعت في وقت كان العمل الحداثي لايزال مسألة مُثيرة للحماس وليس عبارة عن قطعة مُتحف جماليَّة، بدت أكثر دراية بطاقة وروح الأصليَّة، وبالتأكيد قراءة أفضل من الجهود الحديثة الأكاديميَّة.
تم نشر المقال في موقع إنكتاب
المقال مترجم لقراءة النص الأصلي اضغط هنا.