حوار مع جان بيير بيرني (أستاذ خبير، جامعة السربون-باريس)
ترجمة: عبد السلام بنخدة
يصف بورخيص كونا مؤلفا من عدد لا نهائي من المكتبات، المليئة بالكتب الغامضة. إنه في الأساس مجرد صورة كاريكاتورية لرؤيته للعالم.
س: عندما كان بورخيص في غرفته في جنيف، منهمكا، برفقتك، في إعادة قراءة جميع أعماله الإبداعية، لتحضير نسختها الكاملة لتنشر في طبعة لا بليياد {الشهيرة }، نجد أنه لم يكن لطيفا جدا مع كتابه “تخييلات” (Fictions)….
ج: تصرف يمس كتبه الأخرى بدورها. قبل وقت قصير من وفاته انتهى به الأمر ليقول لي: “أعتقد أنني كتبت كتابين فقط ؛ “تقرير برودي” و “كتاب الرمل”، و الباقي مجرد مسودات.” كان يعتبر أعماله كتطهير تدريجي. في كتاباته الأخيرة كان لا يستخدم سوى ملفظ محدود الكلمات للغاية. أعتقد أنه في أعماقه كان يود أن يلخص كل كتبه في جملة واحدة. لذا فإن تصور أعماله الكاملة منشورة في “لا بليياد”، كان شبه مستحيل بالنسبة له ! لكن أخيرا. قيد له أن يحتك، كما كان يكرره، بأصدقائه من أمثال دانتي، شكسبير، سرفانتس، مونتان…”
س: “تخييلات” ، مع ذلك، هو الكتاب الذي جعل بورخيص مشهورا عالميا.
ج: لكنه كان بالفعل يكره عنوان الكتاب. خاصة، لأنه تم اختاره من قبل الكاتب و الناقد الفرنسي روجي كيوا الذي أشرف على نشر المجموعة في الأرجنتين عام 1944، قبل أن يترجمه إلى الفرنسية، و تبناه دار { النشر الفرنسية } غاليمار عام 1951. و هو ما شكل نقطة البداية للاعتراف الدولي به. بورخيص، الذي كان قد التقى به في الأرجنتين أثناء الحرب {العالمية الثانية}، كان يعتبر كيوا نتيجة لذلك كـــ “مكتشفه، رغم ذلك كان يكرهه بمحبة، منذ لقائهما. كانا في تنافس. ثم إن “تخييلات”، من الناحية الأجناسية، كانت تسمية جد ملتبسة بالنسبة له. كان يفضل العنوان Artifices (؛زخارف)، لكن اقتراحه هذا تم رفضه.
س: يبدو هذا العنوان مسطحا قليلا لمثل هذه المجموعة القصصية المدهشة. أكثر من مجرد تخييل (fiction)، تعكس هذه القصص القصيرة فكرا أصيلا و معقدا بشكل لا نهائي. بورخيص اخترع نوعا {أدبيا} خاصا به، كيف نحدده؟
ج: غالبا ما يتم الحديث عن حكايات “فانتاستيكية”، لكن هذا التصنيف يبدو لي أنه يسقط في مهوى الاختزال. حتى أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، لم يكن بورخيص يكتب سوى الشعر و النقد الأدبي و بعد ذلك، في عام 1938، تعرض لصدمة مزدوجة: فقد والده الذي كان يعشقه، ثم كاد أن يموت هو نفسه بسبب تسمم في الدم؛ بعد حادث تافه – تم حك فروة رأسه على سلم. و عندما خرج من الغيبوبة، فكر في أن يواصل مشوار والده، الذي كان يكتب حكايات قصيرة متشبعة بأجواء الشرق. ثم كتب “بييرمينار، كاتب دون كيشوت” و كتب النصوص الأخرى التي تشكل متن كتاب “تخييلات”؛ و كان ذلك نقطة تحول رئيسية في انتاجه الأدبي، و لكن، بالنسبة له، كانت مجرد نقطة انطلاق.
س: ما يكرس خصوصية محكيات بورخيص، فيما وراء إطارها ذي البعد الشرقي في كثير من الأحيان، و الغريب على أي حال، هي أولا، و قبل كل شيء مرجعياتها الأدبية المتواصلة. من الواضح أنه كان قارئا كبيرا….
ج: يجب أن تعلم أنه، حتى في المحادتاث اليومية، يعبر بورخيص بشكل حصري تقريبا من خلال التلميحات الأدبية، غالبا ما تكون مشفرة. مع صديقيه الأكثر قربا منه، الكاتب بلوي سيزار و زوجته سليفينا أوكامبو، اللذين يراهما كل يوم تقريبا، يستمر في لعب هذه اللعبة: كان أحدهم يقول بيتا شعريا، و كان على الآخرين إكمال القصيد. كان بورخيص يعيش فقط في الكتب. قضى، كل طفولته، محبوسا في مكتبة أبيه. و بعد ذلك، بالطبع، نتذكرأنه عمل في مكتبة صغيرة في الضواحي، {الأرجنتينية}؛ بعد وفاة والده، لأسباب مالية. في ذاك المكان، قرأ من بين كتب كلاسيكية أخرى، ” الكوميديا الإلهية”. لكنه كان يتمتع بذاكرة استثنائية: كل ما اقرأه احتفظ به في ذهنه بدقة متناهية. ليس فقط قراءاته باللغة الاسبانية لكن أيضا باللغة الإنجليزية، التي قرأ بواسطتها العديد من المؤلفات. لم أسلم بدوي من لعبه هذا: كان يسرد مقاطع و فقرات مقتبسة بها تحريفات صغيرة جدا، ليرى إن كنت أدرك مكامن التحريف. كان يختبرني ! و حينما انخرط في الكتابة، أصبحت الكتب بطبيعة الحال واحدة من موضوعاته المفضلة.
س: إلى حد اختراع {محكيات} أخرى، في مقدمته الجزء الأول من كتابه “تخييلات”، كتب: “بدلا من الهذيان الشاق و المفقر{الحاصل} من تأليف كتب ضخمة {….}، فضلت أن أكتب ملاحظات عن كتب خيالية. و هكذا اخترع بورخيص بطريقة ما ” الفانتاستيك الأدبي”، مقولة نجد تتويجا لها في النص”مكتبة بابل”، الأكثر رمزية في محكيات المجموعة…
ج:كان يجب أيضا أن يقول إنه هو نفسه “قيم مكتبة بابل” في هذه الحكاية، يصف كونا مؤلفا فقط من عدد لا نهائي من المكتابات المليئة بالكتب الغامضة. إنه في الأساس مجرد صورة كاريكاتورية لرؤيته للعالم، الذي لا يوجد بالنسبة له إلا من خلال الكتب. عندما أصبح شبه أعمى، منذ الخمسينات من القرن الماضي، كانت والدته و أصدقاؤه المقربون يقرؤن له. لم يشعر بأي شكل من أشكال الحبس { في غرفة من أربعة جدران}. لم يكن ذلك مهما جدا،
و لم يكن ملموسا جدا بالنسبة له.
س: هل كانت الكتابة، بالنسبة له، مجرد إعادة كتابة”(réécriture)؟
ببساطة بورخيص كان يعتبر أن كل شيء مكتوب بالفعل في كتاب التوراة، الذي قرأه في سن مبكرة جدا. منذ ذلك الحين، و فقا له، كل الأدب لم يكن سوى إعادة كتابة. في مجموعته القصصية “تخييلات”، حكاية ” بييرمينار”، الذي أعاد كتابة “دون كيشوت”، في القرن التاسع عشر، هي قصته هو. و هو طفل، كان يأخذ نفسه على أنه سرفاتيس، الذي قرأه لأول مرة بالانجليزية.
س: لكن الشيء الأكثر إثارة للدهشة هو أن مفهومه للأدب على أنه إعادة كتابة يغفل أي فكرة عن التسلل الزمني و الانقلابات الدوارة للتاريخ الأدبي. ألم يكن ذلك مجرد لعبا(jeu)؟
ج: ليس هذا فحسب من المؤكد أن بورخيص كان يحب اللعب مع القارئ، لكنه تمكن من أن يخبرني، بجدية تامة، أن “سفر الجامة”(L’Ecclésiaste)، بالنسبة له الكاتب مجرد إعادة كتابة لبعض أبيات الشعر مالرميه”هذا الشاعر الذي لا يتوقف عن ثقفية أبياته الشعرية”. كما يحب أن يقول ! لم يكن الزمن عاملا في الحسبان في رؤيته للأدب، و التي لم تكن عقلانية على الإطلاق. فهو يعمل أولا من خلال الحس المواكب و التوافقات الأدبية التي غالبا ما تكون مفاجئة، و كان يعتبر أن جميع الكتب مرتبطة ارتباطا وثيقا ببعضها البعض. هكذا قبل موته قال لي: “لقد كتبت فقط بضعة أسطر من هذا الكتاب العظيم الذي أعاد كتابتها جميعا”.
الصحفيتان هما: كارولين برون و شارل جيول
Entretien avec Jean Pierre Bernés, Le nouvelle observateur,pp.70/71. Juin/Juillet,2013