“السولاستالجيا” .. حنين إلى الوطن في الوطن

لـ محمد طيفوري من الرباط

تنذر التغيرات المستمرة التي تصيب كوكب الأرض، نتيجة فقدان التوازن البيئي بسبب المشكلة المناخية، بفواجع غير مسبوقة على الإنسان والطبيعة. فسرعة التهاوي والانهيار من حولنا توحي بأن تداعيات المسألة البيئية أقوى وقعا من باقي الأزمات الأخرى، بما في ذلك جائحة كورونا التي نعيش فصولها منذ العام الماضي.


انفتح علم النفس في العقود الأخيرة على دراسة الآثار النفسية لتغير المناخ، متأثرا بأبحاث بشأن العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وتحديدا خلاصات دارسي الأنثروبوسين، تسمية معتمدة حتى الآن، تعني حقبة مقترحة يعود تاريخها إلى بداية التأثير البشري الكبير في جيولوجيا الأرض والنظم الإيكولوجية، فكانت النتيجة نحت مفهوم “السولاستالجيا” Solastalgia، الذي صاغه الأسترالي جلين ألبريشت وزوجته جيل، لأول مرة عام 2003، ونشر في مقالة علمية بعد عامين، للدلالة على تآكل الإحساس بالانتماء إلى مكان معين، والشعور بالضيق النفسي بشأن تحولاته.

يعود اشتقاق كلمة سولاستالجيا إلى الجذر اللاتيني المكون من شقين، أحدهما solari الذي يفيد تخفيف الضيق وتوفير الراحة، أي العزاء في مواجهة الأحداث المؤلمة المرتبطة بالخراب والوحدة. والآخر algia ويعني الألم الجسدي أو المرض وحتى الألم المعنوي. بذلك يكون حاصل الجمع بينهما الدلالة على القلق البيئي والتعبير عن المعاناة النفسية أو الوجودية والضيق الذي يعانيه الفرد نتيجة التغيرات البيئية، في الماضي والحاضر والمستقبل، ولا سيما ما يتعلق بالاحترار العالمي والتنوع البيولوجي.
استطاع الفيلسوف البيئي الأسترالي نحت هذا المصطلح، بعد حاجته الماسة إلى كلمة جديدة تصف حالة نفسية، قوامها شعور الناس بالعجز تجاه التغيرات البيئية التي كانت تحدث بسرعة كبيرة، مقابل “النوستالجيا” التي تدل على معاناة السكان نتيجة الانفصال عن أوطانهم، تأتي “السولاستالجيا” للتعبير عن الضائقة التي يشعر بها الناس في أوطانهم، بعد أن شهدوا أمام أعينهم التغيرات البيئية المحيطة بهم. إنها مزيج من الحنين إلى الماضي والعزاء والخراب لوصف الإحساس العميق بالفقد والعزلة ومشاعر العجز المصاحبة لهذه الحالة الإنسانية.


باختصار، إنها ذاك الشعور بأن الوقت انتهى في الأماكن التي اعتقدت أنها ستكون أبدية، ويصير ملازما للمرء دون أن تكون لديه طريقة للتعافي. فبعد أن كانت هذه الأماكن مليئة بالحياة تنقلب إلى النقيض، بسبب حركية المجتمعات نحو تحضر متزايد يقضي على جميع مظاهر الحياة من حولنا، حاصدا الأخضر واليابس في الطبيعة.
بدأ اعتماد المصطلح تدريجيا في عالم الطب لدراسة وفهم العلاقة بين الصحة النفسية والتغيرات البيئية، ثم لوصف المرض المرتبط بتداعيات الشعور بالضيق المزمن، الناجم عن التغيرات في بيئة العيش أو في الطبيعة. إنه شعور بالخسارة، نتيجة فقدان النوع البشري للبيئة الطبيعية، أو بتعبير ألبريشت “شعور المرء بحنين إلى وطنه الذي لم يتركه، إنها حنين إلى الوطن في الوطن… لم نعد اليوم ننتحب على ماض ضائع، إنما على أرض تتضاءل تحت أقدامنا، ومعاش يُقتلع من جذوره”.
تزايد الاهتمام بالموضوع على الساحة الأكاديمية في العشرية الأخيرة، بظهور دراسات في مجال علم النفس البيئي لباحثين كثر، توجه عملها إلى تحذير من العواقب النفسية الوخيمة للتغيرات البيئية. فقد دافع ريتشارد لوف، في كتاب “مبدأ الطبيعة”، بقوة عن السولاستالجيا، عادّا الموضوع يأخذ حيزا بارزا في حياة الناس. فيما نبهت الأكاديمية سوزان كلايتون، أستاذة علم النفس والدراسات البيئية في جامعة أوهايو عند حديثها عن “القلق البيئي” أو “القلق المناخي” إلى أن السولاستالجيا تأكيد بأن “لدينا علاقات بالأماكن… إنها مهمة جدا لتاريخنا وإحساسنا بمن نحن”.
تصف الدكتورة أليس ديسبيول، التي افتتحت النقاش حول الموضوع في فرنسا، السولاستالجيا بأنها “تعبير عن الصلة الموجودة بين الضيق في النظم البيئية والضيق النفسي، عندما يولد الأول الثاني”. وتضيف أن “القلق البيئي يعكس القلق الاستباقي الذي يمكن أن تسببه السيناريوهات المختلفة التي وضعها العلماء بشأن قابلية كوكب الأرض للحياة في العقود المقبلة”. تعزز زميلتها بريجيت أسيلينو، رئيسة الاتحاد الفرنسي للعلاج النفسي والتحليل النفسي هذا الكلام بتأكيدها انتشار هذه الحالة النفسية في أوساط الفرنسيين “لدينا مزيد ومزيد من الطلبات، خاصة من الشباب. في كثير من الأحيان لا يأتون للعلاج بسبب ذلك، لكن بالبحث نكتشف أنه أصل العلل”.
من جانبه، تحدث برونو لاتور الفيلسوف الفرنسي كثيرا عن السولاستالجيا، باسطا القول في مفارقة “هجرة الكل” بتعبيره، إذ “يعسى أناس سُلبت أراضيهم إلى الاستقرار بجانب أناس يشعرون بأن أراضيهم مسلوبة دون أن يغادروها، وهكذا يبدو كما لو أن الجميع مهاجرون، وتبدأ الأزمة بصدام مهاجري الخارج مع مهاجري الداخل، أو صدام المجتثين من أوطانهم مع من تركوا أوطانهم دون أن يرحلوا عنها”.
نعيش على اختلاف بلداننا في أزمة، ويخيم علينا الشعور بفقد الهوية والأرض والوطن. وحدة المصير يتخذها ألبريشت أساسا يمكن الرهان عليه، للقيام بإجراءات من شأنها أن تغير الحمولة الكئيبة لكلمة سولاستالجيا. وقد تعدى الأمر ذلك نحو هزيمتها بمبادرات تقود نحو استعادة صحة كوكبنا وعقولنا، واستعادة المناظر الطبيعية العقلية والثقافية والطبيعية الحيوية. تبقى الاستجابة الكونية لجائحة كورونا خير مثال على قدرة الإنسانية على كسب رهان سولاستالجيا متى توافرت الإرادة الحقيقية لذلك.

نشر لأول مرة في موقع الاقتصادية

شارك المقالة