حوار مع هيرفيه لو تيلييه، الحاصل على جائزة غونكور لعام 2020: “كنتُ أتشوّق لكتابة رواية عالمية” !

أجرت الحوار الصحافية: آن-ليز روماكل

ترجمة: د. فيصل أبو الطُّفَيْل

يوقّع هيرفيه لو تيلييه بروايته الموسومة بـ: “لانومالي” (النشاز) والحاصلة مؤخرا على جائزة غونكور قصة خيالية موزونة ومَرِحَة من شأنها أن تضع الإنسان في مواجهة سؤاله الأكبر ألا وهو: شبيهُه. 

في مارس 2021، هبطت طائرة بوينغ 747 كانت متجهة إلى نيويورك بشكل غير عادي في نيوجيرسي خلافا لما كان مقررا لها… بعد ثلاثة أشهر وللمرة الثانية، تمّ احتجاز رُكّاب هذه الطائرة، والبالغ عددهم 243 راكباً، بمن فيهم المضيفات، في موقف طائرات، حيث وُضعُوا تحت حراسة مشددة، كجزء من بروتوكول غير مسبوق. وكان من بين هؤلاء المحتجَزين : بليك ، قاتل مأجور ينتحل شخصية طبّاخ ، وصوفيا، وهي فتاة تبلغ من العمر سبْع (7) سنوات لديها سر يصعب الاحتفاظ به؛ وسليمبوي، موسيقي نيجيري طموح؛ وأندريه، مهندس معماري فرنسي في منتصف العمر مهووس بحب لوسي، وهي خبيرة مونتاج تعمل في مجال السينما ولا تحب الاقتراب من الناس. وجوانا، محامية ذات مسار مهني حافل بالنجاحات، وفيكتور مييزيل، كاتب يبحث عن المعنى. ووراء الكواليس ، يتحرك كل من أدريان ميلر ، المتخصص في حساب الاحتمالات والذي لا يتسم بأي نوع من أنواع البطولية، حيث تمنعه طبيعته المتسمة بالتردد من الاتصاف بروح الجدية ، وميريديث هاربر ، وهي متخصصة في  نظرية المخططات ، يطمع أدريان ميلر في ربط علاقة بها. ووسط العديد من المسؤولين الحكوميين الذين تجمعهم وضعية أزمة لا يمكن أن تكون لها تداعيات جيوسياسية فحسب، ولكنها أيضا تفوق الفهم البشري، يبحث أدريان ميلر وميريديث هاربر عن تفسير عقلاني لهذا الخلل.

وقد تمكّن هيرفيه لو تيلييه، الرئيس الرابع لـ “مشغل الأدب الاحتمالي” في فرنسا، والمشهور ب: OuLiPo ، من إحداث رجة قوية، منجذبا نحو الإمكانات التي يتيحها الأدب ، وموقّعا للتو روايته “لانومالي” في دار غاليمار ، بقدْر كبير من الفكاهة الهادفة المستبطنة. وهكذا فإن “لانومالي”  رواية تنطوي على مجموعة من الإشارات المرجعية للثقافة الشعبية ، حيث تقع على حد فاصل بين سلسلة “المرآة السوداء” و “العائدون من الموت” ، وسوف تكون بالتناوب سوداء ، وتوقعية ، رومانسية أو عبارة عن تأملات اجتماعية وفلسفية ، وكأنها تعزز قدرتها على معانقة الرجّات القوية التي تتولد عن سؤالها المركزي : ما هي التنازلات التي يكون المرء على استعداد لتقديمها للواقع عندما يكون هو نفسه معرضا للخطر ؟

الغونكور من نصيب رواية ” لانومالي” – مغرب نيوز أون لاين

آن-ليز روماكل: هل كانت روايتكم “لانومالي” (النشاز) تلامس منذ البداية سياقاً دولياً واسعاً ؟

هيرفيه لو تيلييه: كنتُ أتشوّق لكتابة رواية عالمية، أولا لأنني كنت أتوفر على الإمكانيات اللازمة لكتابتها. فإذا كنا نريد أن نمثّل-عن طريق الكتابة- مشهدا على كوكب المريخ أو المشتري، فإن الأمر في متناول أيدينا: فالمؤثرات الخاصة ليست مشكلة. أردت أن تدور أحداث الرواية في أربعة أماكن محددة: إفريقيا وآسيا (شبه القارة الهندية والصين) وأخيرا في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا اللتين شكلتا في مخيلتي عندما كنت طفلا جزأين من عالم قوي ينقلب رأسا على عقب. لقد منحت نفسي أبطالا في الرواية يتوافقون مع رغبتي: إنهم يتحركون ويسافرون ويجعلون المسافات المقطوعة أقصر على هذا الكوكب الصغير، المهدد الآن. كنت أرغب في كتابة رواية كالفينية، أي رواية تعمل على مسألة تعدد الجنس ، وعلى تحريك الشخصيات.

ينصب تركيزكم بشكل خاص على الرهانات العاطفية التي يخلقها هذا العطل في سيرورة الزمن. لماذا؟ 

ه. ل. ت: بالنسبة للشخصيات، يمكن أن يكون لازدواجيتها عواقب وخيمة جدا تدفعها إلى التساؤل عما ستحافظ عليه من وجودها وما لن تحافظ عليه ، عما هو أساسي وما هو غير أساسي في تكويننا جميعا. وفي رأيي، فإن ما يشكّل لُحمتنا هو تلك الروابط التي تجمعنا بالأشخاص الأكثر أهمية بالنسبة لنا. وهكذا يظل الحب أيّاً كانت اتجاهاته– علاقةَ بُنُوَّةٍ أو علاقةً تشكَّلَتْ حول الرغبة أو الحنان – هو السؤال المركزي، مع ما يمكن أن يحمله من ألم ناتج عن الموت أو الفراق، وما يتيحه من مواقف التضحية والتآزر وغير ذلك من بين أمور أخرى. ولهذا السبب لدي الكثير من الأبطال: إنني بذلك أرمي إلى تشكيل نسيج متنوع من الوضعيات.

تتسم مسألة إيقاع الكتاب – تلك الطريقة المباشرة للتواصل مع كل شخصية من الشخصيات – ببالغ الأهمية أيضا. هل كنت تستلهم من كتابة المسلسلات التلفزيونية أو الكتابة السينمائية لإنتاج هذا التدفق السلس على مستوى الكتابة؟

ه. ل. ت:  لم يكن الأمر يتعلق بمسألة الكتابة بقدْر ما كان يتعلق بوجود مشاهد سينمائية مُسبقة مأخوذة في الاعتبار: بل كان الأمر يتعلق بتحويل ذلك إلى أدب. فرؤوسنا مليئة بالتمثيلات القائمة مُسبقا – وهذا يسهِّل على القارئ تحديد الأماكن. لم تَعُدْ هناك حاجة لكتابة ثلاث صفحات مخصصة لوصف مكان ما! كنت أرغب في أن أعمل على تنوع الأماكن والشخصيات، ويمكن أن يدفعنا ذلك بوضوح إلى التفكير في المسلسلات … والتي أشاهدها وأحب بعضها، ومنها السلسلة الرائعة: “التنصت” Sur écoute لديفيد سيمون. ولكن علينا ألّا ننسى بأنها تستخدم طريقة قديمة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر مع مسلسلات وشخصيات مثل روكامبول. يمكننا العودة إلى أبعد من ذلك والقيام بإنجاز سلسلة تنهل من زمن الإلياذة والأوديسة!

بصفتكم أحد الأفراد المنتمين إلى جماعة Oulipo (مشغل الأدب الاحتمالي)، ما أنواع العقبات التي اعترضتكم في أثناء كتابة الرواية؟ 

ه. ل. ت:  في أغلب الأحيان، تأتي العقبات بعد المسائل الموضوعاتية. وهنا، فهي ضعيفة نسبياً من وجهة نظر جماعة Oulipo. وأول عقبة تتعلق ببنية الرواية: فالشخصيات متداخلة في ما بينها بطريقة معينة، مع أن لكل شخصية مساحة البداية الخاصة بها. ولدي هنا قاعدة: من المستحيل أن يشكل تحديدي لهدف ما عائقا أمام سلاسة الكتابة – وعندما يكون الأمر على هذا النحو، فإنني أتحايل قليلا وذلك عن طريق تشويه خيط السرد لتكون قراءته أسهل. أما العقبة الثانية فتتجلى في أني أجبرت نفسي -بالنسبة للفقرات القليلة الأولى من بعض الفصول-، على استخدام الكتب من مكتبتي، وهي الكتب التي كنت أهتم لشأنها حينما كنت أقوم بتحويلها قليلاً تبعا للجو العام أو الأمكنة التي وُضعت فيها. وليست هذه العقبة شكلا من أشكال الدعم الذي يساعد، ولكنها بالأحرى تبطئ التقدم. تعجبني تلك الفكرة التي تؤدي إلى اتجاهات لم نكن نتوقعها على الإطلاق. وهكذا تم تحويل بداية رواية “وعد الفجر” La Promesse de l’aube   لرومان جاري إلى فصل من فصول الجزء الثالث.

قبل حادثة الطائرة، ينظر فيكتور مييزيل الذي يؤدي شخصية الكاتب في الرواية، إلى الوسط الأدبي نظرة إحباط إلى حد ما. ماذا عنكم؟ سيما وأنتم اليوم، تفوزون بجائزة “غونكور”.. وهو ليس بالأمر الهين !

ه. ل. ت: إن النظرة المتشككة التي يمكن أن تكون لفيكتور مييزيل بخصوص النشر تمثل واحدا من تلك المواقف التي قد نجدها لدى بعض الكتاب. ورؤيتي الخاصة هي أن الجوائز تفيد في المقام الأول في جعل الناس يقرأون. أتذكر جيدا أنني اكتشفت شخصية “أجار” Ajar عندما حصلت رواية “الحياة أمامك” لرومان جاري على جائزة الغونكور. وتعتريني في الوقت نفسه شكوك في النظام – الشرعي لأنه لا يتوج بالضرورة الكتب التي أحب… ولكن هذه المسألة تبقى ذاتية ، وأنا لا أحب فقط الكتب الجيدة ، وفي الوقت نفسه أكن احتراما كبيرا لنظام وُجِدَ منذ سنوات. وما تزال هذه العلاقة بين الفرنسيين والكِتاب محترمة جدا وأسطورية بعض الشيء. وخلال فترة الحجْر، أراد الناس جميعاً أن يشرعوا في الكتابة، وما ذلك إلا نتيجة للعلاقة القائمة بين الرغبة في النص وبين الموضوع. وهذا الحماس المتزامن نحو القراءة والكتابة الذي يتمتع به الفرنكوفونيون هو شيء عظيم: قد يكون ذلك بسبب اللغة نفسها وبسبب تاريخها، وما يمكن أن تنقله من المشاريع العالمية.

مصدر الترجمة:

Entretien avec Hervé Le Tellier, prix Goncourt 2020: “J’avais envie d’un roman planétaire” – Livres-BD – FocusVif (levif.be)

شارك المقالة