تخطى إلى المحتوى

أهميَّةُ البَلاغَة

تــرجمة: عبد الله مرزوق.

البلاغةُ هي استعمالُ فنِّ سِحْرِ الألفاظِ في مُحاولةٍ لإيقاعِ أفكارٍ صعبةِ الإقناع موقعها في ذهنِ شخصٍ آخر؛ إذ تتطلَّب إدارةُ الموظفين بلاغة، ويتطلَّب ترسيخُ أفكارٍ في ذهنِ الأطفالِ بلاغة، وتتطلَّب قيادةُ دولةٍ بلاغة.
بَيْدَ أنَّه للأسف اكتسبت فكرةُ البلاغةِ سُمعَةً سيئة؛ إذ تتبلوَر الشكوكُ بسهولةٍ كبيرةٍ إذا كُتِبَ كتابٌ بأسلوبٍ ساحِر، أو عند سماعِ أغنيةٍ تَدفَعُ الناسَ دفعًا للرَّقْص، أو عند رؤيةِ مُنتَجٍ جيّدِ التسويق، أو رؤية شخصٍ ذي ابتسامةٍ خاطِفَةٍ للقلوب وخُلُقٍ حَسَن.

ورغم أنَّ تعلُّمَ البلاغةِ بات أمرًا ضروريًّا لأي مهمة تعليميَّة؛ فإنَّ الأفكارَ التي نحتاجُ إلى سماعِها هي ذاتُها التي نَوَدُّ أنْ نتجاهلَها! ومِن ثَمَّ فإنَّنا نحتاجُ إلى مُساعَدَةٍ مُثلى في الاستيعاب؛ إذ إنَّنا نحتاجُ أنْ تُغلَّفَ أصعبُ الدروسِ بسِحْرٍ إبداعي مُرْهَف؛ لذا نحتاجُ تَحالُفًا بين التعليمِ والبلاغة.
على النقيضِ مِن التواصُلِ البليغِ يأتي الإلحاح؛ وإنَّه ليُفهَمُ أمرُ هذا الإلحاحِ خاصةً عندما يكونُ الدرسُ هامًّا؛ بَيْدَ أنَّه للأسفِ لن يُؤتيَ هذا الإلحاحُ ثِمارَه سوى لعددٍ ضئيلٍ مِن الأشخاصِ الذين في مواجهته، ولا يستطيعُ أنْ يُغيِّرَ هذا الإلحاحُ فريقًا أو البشر، بل إنَّه يُشكِّل وَضْعًا مأساويًّا؛ فربما يكونُ ما يَجِبُ على المُلِّحين قولُه شيئاً هامًّا للغاية؛ بَيْدَ أنَّ أسلوبَهم لإيصالِه يَضمَن أنَّه لن يُؤبَه لأمرِه!
نحن بحاجةٍ إلى البلاغةِ لأنَّ المُشكِلَةَ الرئيسة للعقل هي أنَّنا نَعرِفُ الكثيرَ-نظريًا- عن كيف يَجِبُ أنْ نتصرَّفَ وماذا يَجِبُ أنْ نَفْعل، بَيْدَ أنَّنا نُشارِك القليلَ مِن معرفتِنا في أدائنا اليومي. نَعلمُ -نظريًّا- عن الالتزامِ بالمواعيد، والعَيْشِ بقِيَمِنا، والتركيزِ على الفُرَصِ قَبل فَواتِ الأوان، والصَبْر ورَحابةِ الصدر؛ بَيْدَ أنَّه عمليًّا تَملِكُ أفكارُنا النيِّرَة قُدرةً ضعيفةً لتحفيزِ سلوكِنا الفِعْلِّي؛ فإنَّ مَعرِفتَنا مُتضمِّنَةٌ داخِلنا ورغم ذلك غير فَعَّالةٍ بالنسبةِ لنا!
رغم أنَّ البلاغةَ تَرتبِطُ باستخدامِ الكلماتِ المُنمَّقَة والقُدرةِ على التحدُّث دونَ مُلاحظاتٍ مَكتوبَة، فإنَّها الدِّراسةُ الدقيقة لكيفيَّةِ إيصالِ رسالةٍ تبقى في أذهانِ الجمهور؛ لأنَّ الفَهْمَ المُتجَهِّم الذي يَعرِضُ قضيتَنا بالمَنطِقِ وبدقةٍ لن يَفي بالغَرَض.
ولقد بَحَثَ الفيلسوف (أرسطو) في فكرةِ البلاغة بفِطْنَةٍ باهِرَة؛ ففي مُنتصَفِ القَرْنِ الرابِع قبل الميلاد في “أثينا”، شاهد (أرسطو) كيف يُمْكِن أنْ تفوزَ حُجَّةٌ ضعيفةٌ وتُتَجاهَل حُجَّةٌ أكثرُ عقلانية؛ لم يعتقد أنَّ هذا بِسببِ غباءِ المُستمِعين بل بسببِ دور عواطِفِنا الهامِّ في تحديدِ تأثُّرِ الأشخاصِ بما يُقال ولِمَن يُقال له ذلك.
عندما تُحفَّزُ المشاعِرُ الخاطِئة فإنَّنا نَملِكُ الأسلوبَ الخِطابي الذي يُوظِّفُ البلاغةَ لخِدمةِ هَدَفٍ ماكِر؛ بَيْدَ أنَّنا إذا أدركنا -ونخشى- مَدى قوةِ ذلك فإنَّنا سنُدْرِك أنَّه يُمْكِن أنْ يكونَ أسلوبُ الكلامِ على قَدَمِ المُساواة مع الذكاءِ العاطفي، ورغم ذلك يهدف إلى الخَيْرِ والازدهار وسنُدرِك الحاجةَ إلى بديلٍ أفضل.
لم يرغب (أرسطو) في أنْ يتوقَّفَ ذوو العقولِ النيِّرة عن مُحاولتِهم ليكونوا ذوي بلاغة، بل أراد أنْ يُعطيَهم نفس الأسلحةِ التي يمارسونها؛ إذ خَشِيَ (أرسطو) مِن عالَمٍ يَعرِفُ فيه الأشخاصُ سيئو النية كيف يلمسوا العواطف؛ بينما يتشبَّثُ الأشخاصُ الجادين وذوو الفكر بالحقائقِ الواضِحَةِ فحَسْب! ولقد ناقشت بعضُ محاضراتِه فنَّ البلاغة وأنجبن تقليدًا فلسفيًّا لدراسة الطريقةِ المُثلى للتحدُّثِ وجَذْبِ الانتباه.


ثمَّة عدد مِن الخُطواتِ التي تَفرِضُ نفسها:
كبدايةٍ، يَجِبُ أنْ نهتمَّ بإضفاءِ الطابِعِ الإنساني لأنفسِنا في أعيُنِ أولئك الذين نناقشهم؛ فرُّبَما تُحاوِل نزعتُنا تعزيزَ نفوذِنا وأقدميتِنا وسُلْطَتِنا لجَذْبِ انتباهِ الجمهور، بَيْدَ أنَّنا نواجِه مشكلةً أخرى وهي عدم تفاعُلِ الجمهورِ مع ما نقولُه؛ لأنَّ لديهم شكوكًا أنَّنا بعيدين عنهم وأنَّنا من عالَمٍ آخر وغير مُهتمِّين بمخاوفِهم ورُّبَما نزدريها؛ وبالتالي فإن التحرُّكَ البليغ هو إشارةٌ إلى إنسانيتِنا المُشترَكَة، فيمكننا أنْ نقولَ مَزحة مُهينَة لنا، أو نعترفَ بقلقٍ مُخزٍ بعض الشيء، أو نتحدَّثَ قليلًا عن الأحداثِ المُمِلّة والمعتادة التي واجهتنا في عُطلَةِ نهايةِ الأسبوع؛ فنحن نُشيرُ إلى أنَّنا نَشعرُ بالنقصِ والقَلَقِ والتهكُّمِ وأحيانًا بالحُزْن، ونؤكِّدُ تقاسُمِ الخِبرات؛ حتى يمكن لهذه الأشِياء صعبة القول والثقيلة على المستمع، أن تخرج بسهولة إذا ما اقتنع المستمع أنها تخرج من عقلٍ ذا وعيٍّ وتعاطف ومشاعرٍ ملتهبة، وأنها لا تخرج من مجرد إنسانٍ آليٍّ.

كما تُشيرُ البلاغةُ إلى أهميَّةِ إعطاءِ شكلٍ حِسِّي وعاطفي لأفكارِنا؛ ففي عام 1894م، شَرَعَ الكاتِب الإنجليزي البارِز (توماس هاردي) في تحويلِ المواقِفِ العامَّة المُتعلِّقَةِ بمَنْ يَجِبُ أنْ يَحصُلَ على التعليم -والذي كان في ذلك الوقت مقصورًا على الأثرياء؛ حيث أعدَّ محاضرةً مُثيرَةً للجَدَل، أو مَقالةً غنية بالإحصائيات تؤكِّد فوائدِ التعليمِ في الاقتصاد أو رَفْع قضية عامة لتحقيق العدالة الاجتماعية؛ بَيْدَ أنَّه عرف كيف تعمل عقولنا ومدى تقبلنا أن نستبد، ولقد فهم كيف يمكن للحقائق والأرقام الواضحة أن تُمحى من ذاكرتنا، وكم من القضايا النبيلة قد اندثرت لأنَّ اللغة المُصاغة بها لا تمسُّ أوتار القلوب، ولذا قام “هاردي” بخطوة يمتد نطاق تطبيقها إلى أبعد من مثاله الخاص: فقد اختار أن يكتب رواية شهيرة بعنوان “جود الغامض” “Jude the Obscure”.
وتروي قصة شخصٍ بعينه، هو “جود فاولي”، وهو عامل بناء أُحبطت -ببشاعة- طموحاته للدراسة في الجامعة؛ حيث يقضي هاردي الكثير من الوقت في وصف “جود” وحياته؛ يخبرنا بما كان “جود” يُحبه عندما كان طفلًا، وكيف تطورت طموحاته، ويخبرنا عن الملابس التي يرتديها “جود”، ويصف شكل السماء عندما يذهب للنزهة في المساء؛ يكشف لنا العبارات الدقيقة لخطاب الرفض الذي تلقَّاه “جود” من رئيس الكلية التي كان يأمل في الدراسة بها:
“سيدي، لقد قرأت رسالتك بإمعانٍ؛ والحكم عليك من وصفك لذاتك كرجلٍ عامل، فإنني أثق بأن لديك فرصة أفضل للنجاح في الحياة من خلال البقاء في مجالك والالتزام بتجارتك بدلًا من تَبَنِّي أيُّ مسارٍ آخر، وهذا ما أنصحك به”.
عند هذه النقطة، ربما نذرف الدموع -ونستميت للمساعدة في خلق عالم أفضل؛ حيث يجعل هاردي قضيته بليغة -قوية عاطفيًّا- من خلال مراعاة أن تعاطفنا يتزايد في حالات الأشخاص الذين نشعر بأننا نعرفهم أكثر من تعاطفنا مع الحُجَّة المجردة؛ كما يعلم هاردي أنه يجب أن نملك إحساسًا قويًّا بحقيقة فكره، وليس قبولها عن طريق الإلحاح وحسب.
بدون أي تطلعات لأكون كاتبًا بارعًا، يمكننا التعلم من هذا المثال؛ حيث يمكننا إدراك أن ما نقاتله في كثيرٍ من الأحيان ليس الجهل بقدرعدم الاكتراث، فمن اليسير مشاركة المعلومات؛ بَيْدَ أن إقناع الجمهور بالاهتمام مهمة أخرى وصعبة للغاية، وتكمن المهارات المطلوبة للحصول على هذا الاهتمام في ميدان يتجاهله المتحدثين: إنه الفن. قد يُعرف الفن على نحوٍ أكثر فائدة باعتباره المجال المُكَرَّسِ لترسيخ المفاهيم ترسيخًا إبداعيًّا في أذهان الناس، ولا يعتقد المتحدثون البارعون أن العناصر الرئيسة لقصةٍ ما يمكن أن تكون كافية للفوز على جمهورهم، ولن يفترضوا أن فكرة أو اجتماع للجنة أو جهاز تكنولوجي جديد يجب أن يحمل في حد ذاته بعض الاهتمام الجوهري الذي سيؤدي إلى تحريك الجمهور أو تحفيزه على الفور؛ فيعلم هؤلاء أنه لا يمكن لأي حدثٍ مهما كان ملفتًا للنظر أن يضمن التفاعل؛ ولضمان التفاعل يجب عليهم الكَدُّ أكثر، وممارسة حِرفتهم المميزة من خلال الاهتمام باللغة، والعثور على التفاصيل الحيوية وإحكام العنان على وتيرة النقاش.
والبلاغةُ هي حلُّ لمُشكِلَةٍ رئيسة؛ إذ إنَّ عقولَنا تُشبِه المنخل، ولا نَحتَفِظُ إلا بالقليل؛ نُشتَّتُ بسهولة، وتتغلَّب عواطفُنا على عقولِنا، كما يدفعُنا الحسدُ والخوفُ والرِيبةُ إلى عدمِ تَقبُّلِ آراء الآخرين؛ تُحفَّز عواطِفُنا مع الحالاتِ الفرديةِ أكثر من القضايا المُجرَّدة، ولإيصالِ رسالةٍ وجَعلِها تَرسخُ في الأذهان علينا أنْ نعترِفَ بخصائص عقولِنا؛ فلا يكفي أنْ تكون دقيقًا وموجَزًا ومنطقيًّا، فنحن بحاجةٍ إلى القيامِ بشيءٍ أكثرَ تعقيدًا، ألا وهو لَمْسُ أوتارِ القلب!


المصدر:

نشر المقال لأول مرة في موقع قبس

مراجعة: دعاء كسبان.
تدقيق: نادية خالد، معاذ محمد.

شارك المقالة