حسين عمر: الترجمة هي الوسيلة الوحيدة لمنح النصّ لغة عالميّة

همبرفان كوسه

يشبّه البعض فعل الترجمة بالنظر إلى هطول المطر من وراء الزجاج، فمشاهدة تساقط المطر من وراء حاجز شفاف لن يشعر المشاهد بالبلل، ومن هنا تبدأ صعوبة هذا الفعل.

دون شك، لا تقتصر مهمة المترجم على النقل من لغة إلى أخرى بشكل حرفيّ، وضمن قوالب وأطر جاهزة، بل هي بث روح جديدة في نص مكتوب، في الأساس. إنها عمليّة استنساخ بجينات جديدة مبتكرة وإبداع حقيقيّ، لا يقتصر على استخدام المقابل اللغويّ فقط، بل عبر استخدام المعادلات الثقافيّة بين النص المصدر والآخر المنقول إليه.

حسين عمر، كاتب وصحافي ومترجم كرديّ. من مدينة ديريك/ المالكيّة في محافظة الحسكة بسوريا. مقيم في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق. متخرّج من كلية الآداب، قسم اللغة الفرنسيّة من جامعة حلب. ويعمل مديرا لقسم غربي كردستان وسوريا في شبكة رووداو الإعلاميّة الكرديّة- العراقيّة. له 29 كتابا مترجما من الفرنسيّة إلى العربيّة بين روايّة وأدب وسياسة، وترجمات من الكُردية إلى العربيّة، وصدر له كتاب بعنوان “نهاية الدولة الممركزة”.

الروح التي يكتب بها حسين عمر

المترجم الألمانيّ المعروف هارتموت فندريش، أحد شيوخ صنعة الترجمة، ويعمل في ترجمة الأدب العربيّ إلى الألمانيّة، يقول عن المترجم إنّه حامل للنصّ من ضفة نهر إلى الضفة المقابلة. ويقول حسين عمر، عن الروح التي يضعها في ترجماته “تقع على عاتق المترجم مسؤوليّة إيصال النصّ إلى برّ الأمان في الضفّة المقابلة”.

وبالنسبة لعمر فإنّ الحقيقة التي يجب أخذها في الحسبان هي أنّ لغة سكان الضفة التي حُمِلَ إليها النصّ تختلف عن لغة سكان الضفّة الأولى. ولذلك، يجب أن يكون الهاجس الأوّل للمترجم هو بثّ روح اللغة المُترجَم إليها في النصّ وإضفاء جمالياتها عليه، حسبما يضيف.

حسين عمر يقول إنّ إقامته في إقليم كردستان العراق، وعمله في مؤسّسة إعلاميّة كرديّة بارزة منحته الفرصة للاحتكاك والتفاعل مع اللهجة السورانيّة بشكل عمليّ

ويكمل حديثه “فالترجمة ليست عملية نقل ميكانيكية لنصّ من لغة المصدر إلى لغة الهدف، وإنّما هي عملية خلق وإبداعٍ جديدة. بالتأكيد، هذا لا يعني التخلّي عن روح النصّ المصدر، وإنّما وضع هذه الروح في جسد النص الهدف بطريقة إبداعيّة خلّاقة. في هذه الحالة، لا تموت روح اللغة المُترجَم منها، وإنّما تتجدّد في اللغة المُترجَم إليها. وإلّا لما كان هناك حديث عن ترجمة جيّدة وأخرى رديئة. الترجمة تمنح أفقا جديدا للعمل الأصليّ، وهي وحدها الكفيلة بتحويله إلى نصّ عالميّ، لأنّ الترجمة هي اللغة العالميّة الوحيدة للأدب، بتعبير هوراس إينغدال. ويعرّف عمر المترجم بـ”قارئ بلغتين في آن واحد”. ويعتمد على مبدأ “ترجمة آلف كلمة تبدأ بكلمة. وأترجم المبدأ إلى فعل، فلا أنام قبل أن أنجز ترجمة ألف كلمة”.

وعن ذلك يبيّن عمر “أعتمده ضمن قواعد التزامي بالعمل وحرصي على الإنتاج والإنجاز. فأنا لستُ متفرّغا للترجمة. خلال خمسة عشر عاما، ترجمتُ ثلاثين عملا، وألّفت كتابا، على الرغم من أنني لم أتفرّغ للترجمة حتى لشهرٍ واحد. وأعتقد أنّ من صفات المترجم الناجح الصبر والقدرة على التحمّل والجديّة في العمل وعدم الركون للكسل والاستسهال. فرغم الرصيد الذي أمتلكه من الأعمال المُترجَمة، لا أزال أواصل الترجمة بنفس التلهّف والقلق والرهبة والحرص على الابتعاد عن الاغترار بالنفس عند كلّ عملٍ جديد، كما لو أنني أخوض تجربتي الأولى”.

وكان حسين عمر قد ترجم أعمالا من اللغة الفرنسيّة، هي في الأساس، أعمال مترجمة من الإنكليزية والسويدية والإسبانية إلى الفرنسيّة. فعن تأثير اللغة الوسيطة في الترجمة، يُشير إلى أنه “ربّما لا يكون حكما حصيفا إن قلنا إنّه لا تأثير مطلقا على العمل حينما يُترجَم من لغة ثانية تُرجمت إليها من اللغة المصدر. لكن هذا يتوقّف على براعة المترجم الأوّل ونجاحه، ومن ثمّ عليّ كمترجمٍ ثانٍ. وهذه ظاهرة قديمة في عالم الترجمة. فقد قرأ قرّاء العربيّة أعمال عبقري الأدب الروسيّ فيودور دوستويفسكي الكاملة وكذلك بعض أعمال تولستوي وليرمنتوف وبوشكين بترجمة الأديب والناقد والمترجم السوريّ سامي الدروبي لهذه الأعمال من الفرنسية وليس من اللغة الروسيّة، اللغة المصدر لهذه الأعمال.

لغة هادي العلوي

ويوضّح عمر أنّ اللغة الكرديّة هي أوّل لغة تتبادر إلى ذهنه حينما يقوم بالترجمة، لأنّها بحسب قوله لغته الأمّ، وتستقر راسخة في وجدانه وبنيته الذهنيّة والنفسيّة. وعنها يقول “فهي اللغة التي بدأت بها كلمتي الأولى، وهي الّتي لم أتعرّف على سواها خلال السنوات الستّ الأولى من طفولتي، وهي اللغة التي لازمتني، ولا تزال، في تفاصيل حياتي اليوميّة. أحلم بها، وأؤدي بها مونولوجاتي الداخليّة. وأستخدمها، يوميا، في عملي الصحافيّ، أحرّر بها الأخبار وأعدّ تقارير إخبارية. كما أنّني ألّفت كتابي الوحيد، حتى الآن، باللغة الكرديّة، وترجمت منها مجموعة شعريّة إلى العربيّة”.

الترجمة هي ممارسة تُساهم في خلق حالة من التعارف والتقارب بل والتمازج بين ثقافات وحضارات، وخلق لغة مشتركة بين البشر المنتمين إلى هذه الثقافات وهذه الحضارات

ويتابع “لكن حينما يتعلّق الأمر بعملي في الترجمة من الفرنسيّة إلى العربيّة، أدخل في صومعة هاتين اللغتين. أغوص في عوالم “النصّ المصدر ”ولغته الفرنسية، لأحوّل القدرات والكفاءات التعبيرية والجمالية التي يختزنها إلى “النصّ الهدف ”ولغته العربيّة، ولكن بالمنطق والفلسفة الخاصّين باللغة العربيّة. فلغة القارئ للنصّ المُترجَم هي العربيّة، ووظيفتي كمترجم، هنا، هي الإفادة من القدرات والكفاءات التعبيريّة والجماليّة للغة العربيّة، لكي أقدّم للقارئ نصّا يتذوّق جمالياته، لا تعافه نفسه ويشعر بالاغتراب عنه. واللغة العربيّة، هي اللغة التي تلقيتُ بها تعليمي بمختلف مراحله، وقرأتُ بها روائع الأدب والفكر العربيين والعالميين. وقد كانت الوسيلة التي استخدمتُها في تأسيس وصياغة بنيتي الفكريّة والمعرفيّة، وهي، في هذا السياق، ليست غريبة عن وجداني”. طبقا لإجابته عن السؤال الذي طرح عليه.

أمّا اللغة العربيّة، لا يجدها المترجم حسين عمر بعيدة عن وجدانه، لأنّها لغة جميلة وذات إمكانات وقدرات تعبيريّة وجماليّة هائلة. ويتوقّع أنّه “بترجمتي إلى العربيّة، أنا الكرديّ، أساهم في ردّ الإساءة عن هذه اللغة. إساءة الطغاة المتكلّمين بها إليها، إذ يستخدمونها أداة في قمع هويتي القوميّة والثقافيّة واللغويّة، أنا الكرديّ. فاللغة العربيّة الّتي أحبّها بعد لغة أمّي وأُتقنها، بالنسبة لي، هي اللغة التي كتب بها هادي العلويّ رسالة تبرّؤه من جنسيته العراقيّة احتجاجا على قصف طاغيّة عربيّ لمدينة حلبجة الكرديّة بالأسلحة الكيميائيّة، وهي التي تغنّي بها فيروز لنستمتع أكثر بقهوة الصباح”.

غيوم ميسو، وبعد

أعمال حسين عمر تتوزع على ثلاث لغات
أعمال حسين عمر تتوزع على ثلاث لغات

لا يميل حسين عمر إلى المفهوم الرسالي للترجمة، حسبما يُجيب على سؤال عمَّ إن كان يودّ أن يكون من ناقلي رسالة غيوم ميسو إلى اللغات المختلفة؟

لكنّه في المقابل يجد أنّ “الترجمة هي ممارسة تُساهم في خلق حالة من التعارف والتقارب بل والتمازج بين ثقافات وحضارات، وخلق لغة مشتركة بين البشر المنتمين إلى هذه الثقافات وهذه الحضارات، وخلق فضاء تشاركيّ وتفاعليّ بينها، لكنّها في النهاية هي مهنة لها سوقها”.

وعن سرّ ولعه بأعمال ميسو، يسرد عمر “يعود إلى تجربتي الأولى مع روايته “.. وبعد” وما تركته من أثر في أعماقي. هي، ربّما، حالة من التماهي بين المؤلّف والمترجم. نعم، عشت أثناء ترجمته حالة من التماهي ليس مع الكاتب وأسلوبه فحسب، بل ومع بطله الذي ظلّ يعيش يقين موته الوشيك. لمرّات عديدة، شعرتُ بحالات ضيق تنفّس وانقباضٍ في القلب كما لو أنني ذاهبٌ مع بطل الرواية إلى الموت. وقد تحدّث الناقد الأدبي والفيلسوف الفرنسيّ رولان بارت عن التأثير الذي لا يمكن إنكاره لتماهي المترجم مع الكاتب”.

الكتابة والترجمة من اللغة الأمّ

ردّا على استفسار حول التحوّل من الترجمة إلى الكتابة الإبداعيّة، يُفيد عمر، بأنّ “تجربة الكتابة تختلف عن الترجمة وهي تحتاج إلى أدوات أوسع، لا مجال للتفصيل والتوسّع في الحديث عنها الآن”.

وكان عمر قد صدر له كتاب بعنوان نهاية الدولة الممركزة، والذي يعالج فيه، باللغة الكردية نشوء الدولة كظاهرة اجتماعيّة وكتجربة سياسية، وركّز من خلال الكتاب على تجربة إقليم كردستان العراق.

حسين عمر: الترجمة ليست عملية نقل ميكانيكية لنصّ من لغة المصدر إلى لغة الهدف، وإنّما هي عملية خلق وإبداعٍ جديدة

أمّا عن الترجمة من اللغة الأمّ إلى العربيّة، يقول المترجم حسين عمر، إنّ إقامته في إقليم كردستان العراق، وعمله في مؤسّسة إعلاميّة كرديّة بارزة منحته الفرصة للاحتكاك والتفاعل مع اللهجة السورانيّة بشكل عمليّ “فخلال الأشهر الأولى من عملي، كنتُ أقوم بترجمة مواد من اللهجة السورانيّة إلى الكرمانجيّة.

وبمرور الوقت، تعمّقت معرفتي باللهجة السورانيّة، الأمر الذي منحني الجرأة على خوض تجربة الترجمة هذه، وهي ترجمة مجموعة “سبعون نافذة متجوّلة”. وقد استعنتُ بزملائي من المهتّمين بشعر شيركو بيكس، لأتمكّن من فهم الأبعاد الدلالية والرمزية لبعض مفرداته وجمله الشعرية. ولا شكّ أنّها أضافت بعدا جديدا لتجربتي كمترجم وأثرتها”.

نشر سابقا في موقع العرب

شارك المقالة