مُحمَّد صَلاح بوشتلّة
في اعترافٍ مبدئي لا يحتاج إلى استنطاق النّص، أو مساءلة الذي كتبه، إعتراف تؤكده السّيرة الأكاديمية لكاتب “تُرجُمان الفَلْسَفَة”، يؤكد لنا مُحمَّد موهُوب أن التّرجمة ليست بذاك العمل المحال أو المستحيل الذي يستحق صاحِبه المحاكمة، وأن ترفع باسمه صكوك الاتهام المجحفة في حقه، باعتباره خائناً للأصل، ومزيفا لمعاني ما يجب أن ينقل في أمانة، وبقلم أمين لا يغدر ولا يخون، فجُل أعمال أستاذ الفَلْسَفَة المعاصرة بكلية الآداب بمراكش، السّابقة على عمله الفلسفي بصدد التّرجمة هي ترجمات. نعم ترجمات، لكن بصيغة وبمذهب وطريقة أخرى، ترجمات لما هو عربي إلى ما هو ليس بالعربي، أي نقل ما تَقَوَّلتْهُ “النَّحْنُ” عن نفسها، شعراً وروايةً وقصةً إلى لغات أخرى في وضعية مريحة، في تناقض غريب عجيب مع المهمة التي يختارها سائر المترجمين عادة لأنفسهم وهي ترجمة الآخر إلى لغتهم الأصل التي يرونها دوما، وبعاطفة زائدة عن الحد، أكثر نقصاً، وتهميشاً، والأكثر حاجة إلى أفكار جديدة وأسماء أكثر جدّة، لملأ الشّروخ وسد الفجوات والخروم التي يرون أنها تعانيها وتئن تحت وطأتها. تناقض قد تختفي غرابته إذا ما نحن افترضنا أنه يتستر ضمناً على هوس أصيل باللغة الأصل، ما دام أن الواحد منّا ـ كما عبر ع. كيليطو ذات مرة ـ لا يهرب من لغته إلى لغة أخرى إلا ليقترب من اللغة الأولى التي تسكنه أكثر وأكثر.
غير أن صاحب التُرجُمان يأبى أن يفكر في الأسئلة التي تطرحها التّرجمة، أو بالأحرى الأسئلة التي تطرحها الفَلْسَفَة عن موضوعة التّرجمة، إلا بلغته الأصل ومن خلالها، اللّغة العربية، كصيغة أخرى من السفر، لكن بين لغتين وبجواز الترجمة دوما، وكنوع من التّكفير الأخلاقي جداً عن شعور ما بالذّنب لربما، هذا إذا ما نحن اعتبرنا أن ترجمة ما تقوله الذّات عن نفسها إلى لسان الآخر الغريب هي في منزلة ومقام الجريرة والذّنب الذي لا يمكن أن يغتفر، وإذا ما نحن لم نعتبر أيضاً أن ترجمة قوْلِنا وأقوالنا للغةِ الآخر عن طريقنا وبأيدينا، هو تفجير لكينونتنا في العالم بما نحن هم أصحاب هذه الكينونة العارفين بدقائقها وخرائط وأقبية هويتها، ومادامت التّرجمة ليست فقط ترجمة للمصطلحات والكلمات، بل ترجمة لمفاهيم تحمل معها قرارات تفكر فينا ونفكر فيها وبها، لتكون نائبة عن حضورنا المادي، بشكل يذكرنا بمواطنه الآخر عبد الفتاح كيليطو الذي يختار هو الآخر لرواياته أن تتكلم لغة الآخر نيابة عن عربيته التي يقيم هياكل خيالات شخوص رواياته منها، لكنه هو كذلك عند حديثه النّقدي عن رواياته المفرنسة، وعن باقي الروايات والقصص القديمة والحديثة لابن المقفع والحريري يختار لغته الأصل في الغالب للحديث عن تفكيره فيها، فمعهما ومع قليل غيرهما نتحدث عن نفس المريض الجميل الذي يلخص الحكاية عنه كيليطو نفسه بالقول: “خلال النهار أقرأ كتباً بالعربية، وفي الليل أقرأ أخرى بالفرنسية، وهذا النظام، رغم صرامته، لا يمكن لي تفسيره منطقياً. فهل قراءة النهار هي قراءة العقل وقراءة الليل هي الحلم”.
باعتباره أحد المتهيدغريين العرب فإن محمّد موهُوب يرفع إشكال التّرجمة إلى رتبة المشكل الفلسفي القائم بنفسه، ليـولي وجهه شطر التّرجمة باعتبارها رحلة مغامرة أو بتعبير هايدغر “Das Abenteuer des Übersetzens”، لكن لا باعتبارها مغامرة داخل لغتنا الأصل، بل كمغامرة مضاعفة لأنها تتم عند مُحمَّد موهُوب في أعماله التّرجمية داخل لغة غريبة عنه، إنها مغامرة مجهولة النتائج والعواقب داخل المجهول نفسه، مغامرة مضاعفة الجهد والاجتهاد، فقد ترجم موهُوب الرواية والقصة القصيرة ومنتخبات شعرية إلى لغة أخرى، أي إلى أرض مجهولة أخرى، وكأنه يود أن يكتشف بشكل أولي إمكانات لغته بصدد لغات أخرى، وفي نفس الآن يود أن يقول لصاحبه الأعجوبة أبو عثمان الجاحظ، ولأسلافه العرب أيضا من الذين قالوا باستحالة نقل شعرهم إلى لغة أخرى يجهلها، غير لغته التي كُتِبَ بها، أن ترجمة الشّعر الذي يعتبر بدوره أعجوبة العرب وديوانها، أمر هو في حيز الممكن، لا في خانة اللا ـ إمكان، وليمعن في نكئ مشاعر ابن رشد الذي فشل في ابتكار مقابل يترجم به مفهومي التّراجيديا والكوميديا، فضَيَّع بذلك على العرب فرصة اللُقيا بأبي الفنون، وليهمس كذلك في أذن أحمد فارس الشّدياق صاحب “الواسطة في أحوال مالطة” الذي ادعى أن شعر العرب لا يكون شعرا حين تحل به وساطة التّرجمة، وكأن الشعر العربي كتب بلغة أخرى غير العربية، لكن لا يفهمها غير العرب، ليهمس له بكون الشعر يصير متعة أكبر، لا بل ويُمَدُّ له في صحيفة حياته بعمر جديد، حينما يقرأ في كل اللغات، وفي ترجمات تغنيه وتزيده عمقا، وبالتّأكيد لا تفقره، ولكن بشرط أن نحسن الظّن بالمترجم، هذا الأخير الذي لن نجد كبير عناء، إذا ما نحن ألغينا الشّرط ذاك لنعامله كمهرطق المدينة المومن أهلها، ومجدفها، أو حتى شاهد الزّور الذي لم يكتب له حظ في التّعرف على فضيلة الوفاء، ولا أداء عمله في حب وإخلاص لا يهتزان ولا يتزعزعان.
نشر لأول مرة في موقع ثقافات