مراجعة | إغراء المعركة: تاريخ ربح وخسارة الحروب

تأليف الدكتور كاثال نولان. أستاذ التاريخ في جامعة بوسطن الأمريكية.

مراجعة: نيل فولكنر | ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو. 

ترجمة حصرية لموقع ترياق

ما أهمية “المعارك الحاسمة” في تاريخ الحرب؟

هذا هو السؤال المركزي الذي يطرحه كاثال نولان في هذا الإحصاء الجليل لأكثر من 2000 عام من التاريخ العسكري. ويخبرنا في نقاشه الآسر، والمثير للجدل أحياناً، كيف ركز الساسة والقادة العسكريين اهتمامهم على فكرة “المعركة الحاسمة” التي تقدم في الظاهر النصر السهل المبين والرخيص ولكن ذلك في مجمله محض تضليل.

ظهر إغواء هذا المفهوم على وجه الخصوص بين زعماء الدول أو التحالفات الضعيفة الذين حاولوا تجنب حرب الاستنزاف الطويلة ضد الأعداء الأقوى.

يمثل “إغراء المعركة” إغراء الحل السريع: الهجوم الخاطف وحرب المناورة السريعة والبريق الكاسح للقائد العظيم وإهلاك العدو في حقل من الدم والحديد يتبعه سلام المنتصر. ويجادل نولان بأنه سراب مثل وهم كاناي وأجينكورت وبلنهايم وواترلو وجيتيسبرغ. 

سراب؟ نعم لأن “المعركة الحاسمة” نادراً ما تكون من هذا النوع.

الجاذبية القاتلة.

شاع هذا المفهوم منذ بداية تدوين التاريخ. وبدأ به المؤرخ الإغريقي هيرودوت الذي يُكنى في بعض الأحيان “أبو التاريخ” إبان تأريخه للحروب الفارسية حيث ساد التركيز على انتصارات المعارك المجلجلة مثل ماراثون وسلاميس وبيلاتيا.

قلل المؤرخون الرومان من أهمية الدرس ويعزى ذلك بشكل رئيسي إلى اكتشافهم أن الدراما الكبرى للمعركة المدوية أمراً لا يقاوم بالمقارنة مع الفعل الأكثر واقعية لحرب الحصار ناهيك عن الحسابات الكئيبة للوجستيات العسكرية.  

ولكن إذا تعمقنا قليلاً نجد أن “المعركة الحاسمة” تذوب مثل السراب لأنها في الحقيقة لم تحسم سوى النزر اليسير. ولنأخذ كاناي التي تمثل أعظم انتصار لهاني بعل على الرومان وهي معركة تحظى بالتبجيل العريض في الأكاديميات العسكرية الحديثة وتعتبر تحفة تكتيكية. وربما كانت كذلك. ولكن ما المهم في ذلك بالضبط؟

كانت الحرب البونيقية الثانية حرب استنزاف دامت لستة عشر عاماً وانتهت بهزيمة كارثية للقرطاجيين. ولماذا حدث ذلك؟ يذكرنا نولان لأن الرومان تمتعوا “بعمق استراتيجي استثنائي“. كان نظامهم نظاماً اجتماعيا يرتكز على المواطنة العامة جعلت مئات الآلاف من الايطاليين أصحاب مصالح بينما تزعم هاني بعل جيشاً من المرتزقة.

أما لو عكسنا حرب كاناي فسوف تنهي حملة هاني بعل. سيتمكن الرومان من ناحية أخرى من تحمل سلسلة من حروب كاناي ويتابعون القتال. وفي تلك الحادثة اختاروا تجنب المعركة وإنهاك العدو في حرب حصار طويلة.

ولنأخذ مثالاً أخر: الانتصارات الانجليزية الثلاثة الشهيرة في حرب المئة عام: كريسي (1346) وبواتيه (1356) واجينكورت (1415). ولا يعني ذلك أن تلك المعارك كانت عديمة التأثير ولكن التأثير نفسه كان مؤقتاً ومحدوداً ولم يكن قط “حاسماً”.

حظيت اجينكورت على الأخص بمكانة أكبر من حجمها في التاريخ البريطاني الشعبي (بفضل الدعاية المؤيدة للقومية لمسرحية شكسبير هنري الخامس). وبتعابير المؤرخين العالميين فإن هذا الصدام الصغير المدى في حقل موحل في شمال فرنسا لا يستحق التسجيل. وانتصر الفرنسيون في حرب المئة عام بعد جيل واحد.

ويعزى ذلك بشكل جزئي إلى أن موارد وثروة وعديد الرجال الفرنسيين كان أكبر من الانجليز بكثير. وايضاً لأن الانجليز وقعوا ضحية لما يسميه نولان “مرض النصر”-وهو تعلق محافظ بنظام عسكري مجرب لأنه حقق النصر في الماضي رغم تغير العالم ووصول الحداثة.

أسست الملكية الفرنسية دولة مركزية حديثة وانجزت اتفاقية مع طبقة النبلاء التقليدية وأدخلت المجموعات الاجتماعية الجديدة في الكفاح من أجل الوحدة الوطنية والاستقلال. وتمثل ذلك بالمدفعية وطبقة جديدة من المشاة. سقطت القلاع البريطانية أمام المدافع الفرنسية وقضي على السلسلة الإنجليزية القديمة المتمثلة بالقوس والسهم بواسطة حملة المسدسات ورماة الأقواس في فورمينجني (1450) وكاستيليون (1453).

يشير نولان إلى أن حرب المئة عام كانت حرب استنزاف طويلة ولم يفز بها سوى الدولة ذات الموارد المادية الأعظم عندما تمكنت تلك الدولة من إيجاد منظمة فعالة ومرنة وإبداعية.

تكلفة التضليل.

نصل الآن إلى آخر 250 سنة من التاريخ العسكري-وهذه هي نقطة التركيز الأساسية في كتاب نولان إغراء المعركة-ونرى مذابح تعتلي مذابح دفاعاً عن وهم: السعي نحو “المعركة الحاسمة”. ويشرحها بالقول:

” يهدف الكتاب لتصحيح الذاكرة الشعبية المشوهة لمكانة المعركة في الحرب الحديثة والبدء باستبدال الصور الرائجة للمعركة الحاسمة مع تقدير متجهم للالتزامات المادية والوطنية الأكبر في الحرب التي يقررها القتال الطويل والذي أودى بحياة مئات الآلاف من البشر في القرن الثامن عشر وملايين في القرن التاسع عشر وعشرات الملايين في القرن العشرين. ثبت في هذه الحروب الحديثة التي تمت على مستويات هائلة لغايات متنامية باستمرار، عبر كل ما تقدمه التكنولوجيا الصناعية الحديثة والعلم، أن الاستنزاف كان على الدوام الطريق إلى النصر والهزيمة.”

يركز الكتاب بشكل أساسي على التاريخ الحديث. يفصل نولان “عودة ” القادة العظماء مستشهداً بالقادة الحديثين من أمثال مارلبورو وفريدريك ونابليون ويعتبرهم تقمصاً لشخصيات من التاريخ الكلاسيكي مثل الاسكندر وهاني بعل وقيصر.

ينتقد التركيز على “المعارك الحاسمة” ويؤكد على دور التنظيم واللوجستيات والناتج الاقتصادي واحتياطات القوة البشرية وحرب الحصار. ويلفت الاهتمام مجدداً إلى الأهمية المحدودة لمشاهد مثل بلينهايم ولوثين وأسترليتز.

سيطرت الحرب الموقعية على حملة مارلبورو التي دامت عشر سنوات في حرب الخلافة الاسبانية وكانت استنزافاً عسكرياً محضاً جلبت في النهاية لويس الرابع عشر إلى طاولة المفاوضات.

وربما كان فريدريك عبقرياً استراتيجياً وعسكرياً ولكن انتصاراته تحققت بفضل تحويله لبروسيا إلى “إسبارطة أوروبا”. وفاز نابليون في أسترليتز في عام 1805 ولكن الإمبراطورية الفرنسية تهاوت إلى العدم ما بين عام 1812 و1814.

يكتشف نولان بشكل متكرر الخطأ في القراءة المقلوبة للدليل التاريخي. إذ اعتبرت الحملات الخاطفة الاستثنائية في حروب التوحيد الألمانية نموذجاً. حيث هُزمت النمسا خلال ستة أسابيع وفرنسا خلال ستة أشهر وأصبحت انتصارات ارض المعركة في سادوا (1866) وسيدان (1870) على التوالي معلماً على الطريق. ومن ناحية أخرى لم يشر إلى دروس حرب القرم والحرب الأهلية الأمريكية وهي حروب استنزاف توجت بحصار طويل.

أصاب هذا الانحراف على وجه الخصوص القيادة السياسية والعسكرية الألمانية واليابانية في النصف الأول من القرن العشرين. 

https://i0.wp.com/www.military-history.org/wp-content/uploads/2019/10/Napoleon-at-Austerlitz-2.jpg?resize=700%2C347&ssl=1
نابليون في أسترليتز أحد أعظم انتصاراته. ولكنه خسر في النهاية. إذا ما مدى الحسم في المعارك الحاسمة؟

كانت خطة شلايف إحدى العواقب والتي صممت لإخراج فرنسا من الحرب خلال ستة أسابيع في عام 1914. وفشلت بالطبع وحصرت ألمانيا في حرب استنزاف دامت لأربعة أعوام على جبهتين. كان هتلر أكثر نجاحاً ما بين عامي 1939-1941 ولكن انتصارات فرقه المدرعة في السنتين الأوليين من الحرب العالمية الثانية لم تتمكن من تحوير ميزان القوة. رفعت انتصاراته الابتدائية من حجم وموارد الرايخ الثالث ومكنته من تحمل حرب الاستنزاف اللاحقة والتي فرضت عليه لمدة أطول ولكن دون تحوير الناتج المحتوم.

خُدعت القيادة الإمبراطورية اليابانية “بإغراء المعركة” ولكن الحرب ضد تحالف الصين الوطنية والامبراطورية البريطانية والولايات المتحدة كانت آلة طاحنة للرجال والعتاد-حرب استنزاف بالجملة-لم تتمكن اليابان من الفوز بها.

دورس لم تُتَعلم.

كانت العواقب كارثية على مستوى العالم: 15 مليون قتيل في الحرب العالمية الأولى و60 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية حيث دفعت شعوب ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية الثمن الأكبر لتلك الحروب.

 هل تعلمنا الدروس الآن؟ لا يبدو في الظاهر أن أحداً تعلمها. لدينا الآن ما يسمى “الحرب على الإرهاب” التي أطلقها جورج بوش وتوني بلير الذين خلطوا بين الدوسيهات المواربة وتفاؤل “الحرب القصيرة وهم يدفعون بربع مليون من القوات الغربية نحو الشرق الأوسط. وكانت النتيجة عقدين من التعجيز الذي حول الجهادية الإسلامية إلى قوة عالمية.

ويستمر “إغراء المعركة“. ويمنح نولان الكلمة الأخيرة لقائدين متضادين على واحدة من خطوط التماس العالمية الراهنة: كشمير.

“أعلن قائد الجيش الهندي دالبير سينغ سواهغ في أيلول من عام 2015 أن قواته كانت بكامل الجاهزية “لطبيعة الحروب المستقبلية القصيرة والمباغتة”. ورد قائد الجيش الباكستاني الجنرال رحيل شريف: “تقف قواتنا باقتدار وهي قادرة على هزيمة كافة أنواع الاعتداءات الخارجية. قصيرة كانت أم طويلة” ولذلك يبقى الوهم قائماً ولذلك تلوح الحرب التالية في الأفق.”

وهناك مراوغات. قد يكون التحليل التاريخي سطحيا” عندما نشذ عن الأرضية الآمنة للتاريخ العسكري. ويبدو أن نولان يأخذ “الحروب الدينية” في أوروبا في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر بقيمتها الظاهرية. دون ان يقدر أن تلك الصراعات كانت صراعات ثورية وضمت قسماً من الراديكاليين البروتستانت ضد النخبة الاقطاعية القديمة.

ولكن مثل تلك الأمور مراوغة: ولا تحمل أي مسؤولية إزاء النقاش الجوهري والطاقة والحيوية التي تمثلها وحدة الانتقاد لهذا الكم الهائل من التاريخ العسكري.

وباختصار يتعين على أي شخص مهتم بالمضجع الطويل الأمد للتاريخ العسكري قراءة هذا الكتاب. وقد تكون النتيجة هزة فكرية عميقة. وربما تكون رحلة طويلة -600 صفحة- ولكنها لا تذوي قط. وأعتقد أنه أحد الكتب التي ستترك تأثيراً مستديماً على طريقة تفكيرك بالتاريخ.

نشر هذا المقال في عدد نوفمبر 2019 من مجلة شؤون التاريخ العسكري. وصدر الكتاب عن دار نشر جامعة أوكسفورد.

المصدر:

شارك المقالة