من سالنجر إلى هاربر لي : الحياة المجهولة لمشاهير الأدب الذين خُلدّت أعمالهم الأدبية الأولى وذاع صيتها.

بقلم : كلير آلافيري | ترجمة: إقبال عبيد.

ترجمة حصرية لموقع ترياق

عندما توفيت الروائية النيوزيلندية (كيري هولم) الأسبوع الماضي عن عمر يناهز ٧٤ عاماً، انضمت إلى مجموعة المؤلفين المبجلين المعروفين ليس بفوزهم بجائزة البوكر فحسب – ولكن بإنتاجهم لرواية واحدة فقط طوال حياتهم الأدبية. وهذا ما حقّقته هولم في عام ١٩٨٥ عبر ملحمتها السحرية ” شعب العظام”.

كيري هولم.

اسوة بإميلي برونتي، مارغريت ميتشل، جي دي سالينجر، رالف إليسون، هاربر لي، آنا سيويل : أولئك الذين كتبوا جميعاً تحفة روائية واحدة غيرت قواعد اللعبة طويلاً، يمكن إضافة الروائيين المشاهير على قدم المساواة معهم، أو كُتّاب عُرفوا بأشكال فنية أخرى – من الشعراء سيلفيا بلاث، بوريس باسترناك، والكاتب المسرحي أوسكار وايلد، وكتاب القصص القصيرة – إليس مونرو وإدغار الان بو، رغم أن برونتي كانت أيضاً شاعرة بارعة وسالنجر كاتب قصص قصيرة رائعة.

مع ذلك، فإن صورة الكاتب الذي ينتج عمل مثالي وحيد ثم يختبئ في كهف صمته، وغالباً في الظل، بعيداً عن الأنظار وعن تطفل العامة، تظل بحد ذاتها فكرة مغرية، إذ كم هو مثير للإعجاب أن تترك إرثاً فنياً يتمثل في عمل وحيد، تصون بريقة دون المغامرة بإصدار أعمال اضافية رديئة، أو ملوثة بإشارات الشهرة والأنانية.

 يبدو الأمر مغرٍ حقاً، ولكنه إغراءه لن يستمر على الدوام. فهناك قلّة قليلة من الكتّاب الذين قاموا بإخماد شعلة أقلامهم بهدوء واقتناع، بعد أن حقّقوا نجاحاً كبيراً ولامعاً من نتاجهم الوحيد، نستثني هنا مارغريت ميتشل، التي نشرت” ذهب مع الريح” وحازت على جائزة بوليتزر عام 1936.  فقد أصرّت ميتشل دائمًا على أنها لن تكتب كتابا آخر أبدًا، وتقريباً كان إصرارها ذلك، بسبب الذعر من شهرتها الصاخبة تلك، (فقد كانت تتوقع بيع خمسة الآف نسخة من روايتها، ولكنها تفاجأت بمبيعات قُدّرت ب 50000 نسخة في اليوم الأول لعرضها). وبالرغم من أنها  رفضت جميع المقابلات، إلا أن هناك شائعات بأنها كانت تفكر بكتابة رواية ثانية قبل أن تُقتل في عام 1949 على يد سائق مخمور، عن عمر يناهز 48 عاما.

مارغريت ميتشل.

لم تكتب هاربر لي كتابا آخر بعد نشر رواية ” أن تقتل طائرا ساخراً ” في عام 1960، وذلك لم يكن بسبب عدم المحاولة. فقد صرّحت لاحقاً، قائلةً: “كان للنجاح تأثير سيء للغاية علي”. “لقد أصبحت سمينة – لا أشعر بالرضى ولا الثقة.” لقد أصبحت أهرب باستمرار مذعورة كما كان حالي من قبل.”

هاربر لي.

تبدو الحقيقة الأكثر فوضويّة وتعقيداً هي: أنك بمجرد أن تكون كاتباً ، ستغدو دائماً كاتباً. لكن بعض الشخصيات الراديكالية، مثل هولم وسالنجر وميتشل ولي، لم يكونوا يعتقدون  بالضرورة أن كل ما يكتبونه بحاجة للظهور إلى النور، أو أن الكتابة – ذلك الشكل الفردي من الفن – يجب اعتبارها مشهدًا عاماً للجميع.”

وعلى غرارهم، الروائية كيري هولم، التي عندما تم إخبارها عبر الهاتف أنها فازت بجائزة بوكر، ردّت “أوه، بحقّ الجحيم”، مستغربة فكرة أن كتابتها يُمكن أن تفيد أشخاص وقراء آخرين. كمدمنة لتدخين الغليون، وهاوية لاصطياد السمك الأبيض، عاشت هولم بمفردها في مستوطنة صغيرة في الجزيرة الجنوبية لنيوزيلندا، في منزل قامت ببنائه بيدها، ثم اختارت حياة الظل والتواري، ولكنها مع ذلك، واصلت الكتابة بعد فوزها، وأنتجت قصصًا قصيرة، ومخطوطتين لم تُنشرا أثناء حياتها.  

قالت لإذاعة نيوزيلندا في عام 2011: “قد يبدو أنني بطيئة في الكتابة والإنتاجية”. “لكنني لا أعتقد أن لعبة الكتابة تتعلق بأن تكون منتجاً.” لا أعتقد أن الأمر يتعلق بكونك من المشاهير على الإطلاق. يتعلق الأمر بنسج قصص وأغاني خالدة لتدوم. وخلاف ذلك، لا شيء يستحق العناء.”

وفي الوقت نفسه، قال سالينجر، الذي انسحب في عام 1953 إلى منزله في نيو هامبشاير، بعد النجاح التاريخي الذي حقّقه في رواية  (الحارس في حقل الشوفان) عام  1951 حيث ظل غير مرئي تقريبًا، حتى وفاته في عام 2010، وفي منشور لصحيفة نيويورك تايمز في مقابلة نادرة عام 1974: “هناك سلام رائع في عدم النشر. إنه سلام سلمي. ومقاوم . فالنشر ما هو إلا انتهاك وحصار رهيب لخصوصيتي.”

سالينجر.

ومع ذلك، تزداد الشائعات حول المخطوطات التي تكدس فوقها الغبار: ففي نفس المقابلة قال سالينجر إنه مستمر في الكتابة لمدة 10 ساعات في اليوم، في حين تحدثت ابنته مورين، عن قبو مليء بالمخطوطات، مع ملاحظات شديدة اللهجة وصارمة حول ما كان من المقرر نشره بعد وفاته. لم ينشر شيء حتى الآن، حيث كانتا، إبنة سالينجر وأرملته، اللتان سيطرتا على ممتلكاته ومخطوطاته، مرتاباتان، ويحدوهما الشك في التحرير وآليات النشر كما كان يفعل سالينجر.

فقد حاول كلاً من سالينجر وميتشل ولي، فرض السيطرة المطلقة على كتاباتهم، وملاحقة الناشرين عديمي الضمير، الذين حاولوا إنتاج طبعات غير مرخصة من مؤلفاتهم، وقرّروا -على غرار هولم- الحفاظ على حقهم في الكتابة بشروطهم الخاصة فقط. ومؤخراً وجدت فلسفتهم صدى عميقاً في مشاعر سالي روني، المؤلفة الأيرلندية الناجحة، والتي لم تُخفِ كراهيتها حول تحوّل صناعة الروايات والروائيين إلى سلع تسويقية.

وخلاف تلك الفكرة، ثمة كتّاب كانوا يتوقون إلى الاعتراف الأدبي والاحتضان، وربما إلى المال، لكنهم فشلوا في الوصول إليه. فقد أنتجت إميلي برونتي رواية “مرتفعات ويذرينغ” التي ربما كانت من أكثر الروايات الإنجليزية استثنائية في القرن التاسع عشر، ويعود سبب خوضها لغمار الرواية، إلى أن شعرها فشل في العثور على جمهور وقرّاء متذوقين (مجموعة قصائد، باسم: كورير وإليس وأكتون بيل، وهي المجموعة التي تضمّ أبيات الأخوات الثلاث، نُشرت على نفقتهن الخاصة في عام 1842، وبيعت نسختين منها فقط). ولكن حتى على مستوى الرواية، فقد قوبلت بمراجعات يرثى لها، مما دفع كاتب سيرة برونتي وينيفريد جيرين إلى القول بأن خيبة الأمل الكارثية تلك، منعت برونتي من مواصلة كتابة أي شيء مجدداً. (توفيت بعد عامين، بسبب مرض السل، عن عمر يناهز 30 عاما). ومع ذلك، تشير رسالة إلى إميلي من الناشر توماس نيوبي في عام 1848 إلى رواية أخرى كانت إميلي تعمل عليها على ما يبدو قبل وفاتها.

ايميلي برونتي.

بالكاد يمكن للمرء أن يتخيل كيف روضت إميلي خيالها لمرتفعات ويذرينغ، التي لا تزال قوتها الخيالية مذهلة في عصرنا هذا؛ وفي كلتا الحالتين يعتقد أن شارلوت دمرت المخطوطة، جنبًا إلى جنب، سلسلة السرد الخيالي (غوندال) التي ألّفتها إميلي لسنوات مع أختها آن، من أجل حماية سمعتها.

وعند التفكير في ما كان يمكن أن يكون أعمال قد ماتت في الظل، لن نجد أكثر من أعمال سيلفيا بلاث، الشاعرة الأمريكية التي انتحرت في عام 1963 عن عمر يناهز الثلاثين. فقد نشرت سيرتها الذاتية المكثفة والرواية الكاملة الوحيدة لها “الناقوس الزجاجي “في إنجلترا قبل شهر من وفاتها. ومع ذلك، وبعد وفاتها، قالت والدتها أوريليا إن ابنتها كتبت لها مخطّطًا لعمل ما . يبدو أن بلاث كانت تعمل أيضًا على رواية أخرى حول زوج غير مخلص، مدفوعةً باكتشافها لخيانة زوجها. ولكننا لن نعرف شيئًا أبداً بشأنها، وذلك لأن بلاث دمرت العديد من المخطوطات قبل وفاتها، في حين زعم أن البعض الآخر قد فقد مع الزمن.

سيلفيا بلاث.

ربما القصة الأكثر فجيعة للقلب هي قصة آنا سيويل، الكاتبة صاحبة رواية ” الجمال الأسود”  الكلاسيكية للأطفال، وهي واحدة من أولى الروايات التي رويت من منظور حيوان وهو الحصان .فقد أصيبت بحادثة مشؤومة في طفولتها،  وبقيت على أثرها مشلولةً ومقيدة بالسرير، وفي تلك الوضعية كتبت آنا روايتها في الخمسينيات من عمرها، عبر إملائها على والدتها. ولكنها توفيت بعد خمسة أشهر من نشرها، في عام 1878. 

ربما نجحت هاربر لي في مقاومة رغبتها في كتابة رواية أخرى بعد ” أن تقتل طائراً ساخراً”، ولكن هذا لم يمنع ناشريها من تجميع وإعادة طبع مسودات روايتها تلك، وإخراجها كرواية جديدة في عام 2015، حينها تم قبولها لتكون المسودة الأولى، ولكن المفاجأة أنها حازت على جائزة بوليتزر بالرغم من مراجعات النقاد الفاترة. 

وفي وقتنا الراهن، لا بد أن أرونداتي روي نادمة على  نشر روايتها الثانية الضخمة “وزارة السعادة القصوى”، بعد حوالي عقدين من فوزها بجائزة “البوكر” عن رواية “إله الأشياء الصغيرة”. فقد ظن الكثيرون أنها قادرة على كتابة عمل استثنائي آخر. ولكنها بعد النشر، خيبت الظنون وتلّقت آراء قاسية وتقييمات منخفضة.

ومن تحت قبرها، ربما تأمل كيري هولم الآن، ألا يدّمر أحداً لمساتها على مخطوطاتها.

المصدر:

https://www.telegraph.co.uk/books/authors/jd-salinger-harper-lee-strange-life-literary-one-hit-wonder/

شارك المقالة