غابرييل غارسيا ماركيز ووحدة الإنسان العربي

كاتب المقال الأصلي: شاذل نواف طاقة

ترجمة : بومعزة عبد الغاني

تتبّع تحفة أدب أمريكا اللاّتينيّة ” مئة عام من العزلة” ، المنشورة سنة 1967، ملحمة سلالة “بويدنيا ” وبطريركها ” خوزي أركاديو بوينديا” .

ترسم الرّوايّة وقائع مأساة إنسانيّة لمجتمع مهدّد بالانهيار. 

ترجمة حــــــصرية لــــموقع تـــــــرياق

 في واحدة من تغريداتها الحديثة، أعلنت نيتفليكس حصولها على حقوق تحويل روايّة “مئة عام من العزلة” إلى مسلسل تلفزيوني باللغة الإسبانيّة، فهذه الرّوايّة الأيقونيّة تتبع ملحمة قريّة ماكوندو من تأسيسها إلى انهيارها مرورا بسنوات العظمة والأزمات، شعور قوي بالحزن يحيط بالروايّة، يتغذّى من خلال تيّمة مهيمنة إلا وهي العزلة، للمفارقة، يبدو أنّ هذه القصّة التّي تتحدّث عن الغابات الكولومبيّة بشكل ما هي كذلك تتحدّث عن العالم العربي، كان من الممكن لكاتب عربي معاصر كتابة مئة عام من العزلة طالما توفّر شعور الاغتراب والاقتلاع الذّي يمسّ الشخصيات هو أمر شائع بين الشّعبين،ما وراء الواقع الكولونيالي الذي خلق حقيقة قاسيّة من التبعيّة والتخلف، الأوهام الأيديولوجيّة التّي تطارد شخصيات غارسيا ماركيز ليست مختلفة كلّ الاختلاف عن تلك التّي تؤثّر سلبا  على الظروف الاجتماعيّة في العالم العربي . 

الأنانيّة وغياب الضّمير السّياسي ينبع من انحلال المجتمع والتّي هي نفسها ناتجة عن التشتّت والاقتلاع النّاجم عن الحروب والظاهرة الكولونياليّة، ماكوندو هي قريّة صغيرة معزولة عن العالم بينما العالم العربي معزول رمزيّا عن العالم لأنّه لم يعد قادرا على التّعبير عن عالميته، ما وراء عزلة القريّة، توجد الوحدة التّي تمسّ أبطال الرّوايّة، عزلة تخترق الأساس فينتج عنها انهيار ماكوندو بين أمجاد و كوارث، روايّة تميّزت بواقعيتها السحريّة البديعة ومعلنة في نفس الوقت عن ميلاد تيّار أدبي ممتع وجديد . 

قصّة هذه العائلة الشّهيرة التّي هي من الرّواد المؤسّسين هي قصّة كونيّة لنموذج مصغّر معزول عن بقيّة العالم، بحيث أنّ الأساطير تكشف عن المأساوي في حياة البشر، لم يمنع الجانب الخيالي للديكور الرّوائي من نقل حقائق حسّاسة وعميقة جدا . 

الانسان المعزول : 

   قد لا يكون للمجتمع المعني في مئة سنة من العزلة علاقة بالعالم العربي،لكن غارسيا ماركيز يشير إلى حقيقة عربيّة أثناء حديثه عن قارة أخرى، يرسم بطريقة أصليّة جيّدة مصير مجتمع في قمّة مجده إلى سقوطه مرورا بمحاولات فاشلة لإعادة إحياءه من جديد، ما يشبه عمليات إجهاض متتاليّة، هذا هو ما حاول أجدادنا محمّلين بالكثير من الآمال القيام به بعد الاستقلال الذّي تلا الحرب العالميّة الثّانيّة، دون أن ينجحوا، هنا تكمن قوّة الرّوايّة العظيمة، فهي تتيح للجميع التحدّث عن حقيقة محدّدة بطريقة شعريّة للغايّة، فإنّها تترك انطباع يوحي بالخراب والتعاطف مع أيّ شخص يتابع عن قرب أو عن بعد الواقع العربي يجب أن يكون قد شعر بهذا مرّة واحدة على الأقل في العمر .  

   مقتلع الجذور، مشوّه السّمعة ومشتّت، عانى الإنسان العربي من غزوات تاريخيّة بحيث وجد نفسه مغلوبا و مقهورا ، عندما ينظر إلى المرآة يرى نفسه كملك مخلوع، نحبّ مشاهدة الأفلام والاستماع للموسيقى التّي تستدعي أمجاد الماضي، طريقة لتضميد جراحنا، بحيث لا نمنع أنفسنا من الشّعور بالفخر رغم الظروف، حتّى أمام كتيبة الإعدام التّي تظهر في صورة التّاريخ، جميع قرّاء أمريكا اللاّتينيّة يعرفون بالفطرة الجملة الأولى من الروايّة:” بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام سيتذكر الكولونيل اورليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذّي أخذه فيه أبوه للتعرّف على الجليد”( ترجمة صالح علماني، روايّة مئة سنة من العزلة، دار المدى)، حيث كان يتعيّن على العقيد أوريليانو بوينديا تذكّر ظهيرة ذلك اليوم البعيد والذّي أخذه والده للتعرّف على الجليد، شخصيّا شعرت(الكاتب) بنفس القشعريرة عند سقوط بغداد، انّه اختفاء عالم بأكمله . 

    أنّ عبارة الكاتبة الايطاليّة المثيرة للجدل”أوريانا فالاتشي”لها ما هو أبعد من الاهانة التّي تصدم المرء بشكل شائن ومخز، حيث قالت:” هناك شيء ما في الإنسان العربي يثير اشمئزاز النساء ذات الذّوق الجيّد”، في هذه الجملة شيء شنيع ومشوّه يتجاوز مجرّد التّعبير عن الاشمئزاز، بجملة واحدة استبعدت الإنسان العربي من الإنسانيّة، أن يتمّ استبعادك من ذوق النّساء الجميل يضرب في صميم ما هو حميمي لدى الرّجل، من خلال هذه الجملة قزّمت فالاشي من حيز “الحقراء”و”الدّنيئين” في المكان والزّمان . 

   عودة للتاريخ، يجب أن تكون قادرا على ترجمة دخيلتك، سريرتك في عمل أدبي، في هذا المجال يمكن القول أنّ غارسيا ماركيز ومجموعة من كتّاب أمريكا اللاّتينيّة نجحوا في إحداث ثورة أدبيّة حقيقيّة من خلال الإبداع الأدبي، و تمكّن من”معاصرة جميع الرّجال”، على حد تعبير اوكتافيو باز، الهدف واضح، يجب على الإنسان العربي أن يصبح معاصرا لكلّ الرّجال، الأدب هو اللّغة، الأسلوب، الإيقاع والشّكل لكنّه هو أيضا مجهود جماعي من أجل نهضة أخلاقيّة وفكريّة .

  عبّر غارسيا ماركيز بشكل جميل وبديع عن حقيقة هذا المسعى الأدبي لأمريكا اللاّتينيّة من الجملة الخامسة من مئة سنة من العزلة حيث كتب:” كان العالم حديث النشوء، حتى أنّ الأشياء كثيرة وكانت لا تزال بلا أسماء ومن أجل ذكرها لا بد من الإشارة إليها بالإصبع”( المرجع السّابق أعلاه، الصّفحة 7)، إذا كان لزاما تسميّة الأشياء دون الوقوع في التنميط وعدم إرضاء الدّوائر الأدبيّة لغرض وحيد وهو تحقيق مبتغاهم ورضاهم، منبر مجاني مثير للجدل لإبراز نفسه، لغاية تسويق نفسه وبيعها، الإبداع العظيم يتطلب الشّجاعة ويستبعد الجبن الفكري و الأخلاقي، الشخصيات الأدبيّة العظيمة لأمريكا اللاّتينيّة، مثل، أستورياس، أوسلار بيتري وأليجو كاربنتيه، أعلنوا في بدايّة القرن العشرين الحاجة للانفصال عن التبعيّة الأوروبيّة وبهذه الطريقة نشر الكتّاب الكبار دون التورّط في التنميط والتشتّت لغة قويّة ذات إيقاع جذّاب وساحر ومتقنة تماما بشكل بارع .  

   قبل أن تعاني ماكوندو من ويلات الدّراما، سوف يكسر ظهور الحبّ الدّافع المدمّر الذّي أنتجته أنانيّة ناسها، و سيكتشف أورليانو سوكوندو و بترا كوتيس معنى التضامن المتبادل، وفرحة مساعدة بعضهم بعض خلال الأزمات الاقتصاديّة التّي أصابت مجتمعهم،اقتحام الحب كان فرصة لغارسيا ماركيز للإشارة لتأثير الاشتراكيّة في تنشيط المشهد السّياسي في أمريكا اللاّتينيّة( ليس بالضّرورة أن يكون الحب يحيل إلى رمزيّة اشتراكيّة، فالحب هو الفطرة الإنسانيّة الدّافعة لروح التسامح والمحبّة والتضامن والتضحيّة)،حتى لو كانت قصّة الحبّ بين أورليانو بابيليانو وامارتا اورسولا سينتج عنها إنجاب مسخ بشري بذيل خنزير( ! )، وسوف تسبق انقلاب النّعمة على ماكوندو، بمعنى آخر كانت علامة من علامات نهايّة ماكوندو .  

   على الرغم من الإخفاقات النسبيّة فانّ الاشتراكيّة في العالم العربي تحيل إلى فترة زمنية من الأمل والتضامن، فجملة واحدة من جمال عبد الناصر كفيلة بإسقاط حكومة، أو إحداث ثورة،  لذا هناك من يقول بأنّ الرّوائي العربي العظيم في المستقبل سيكون اشتراكيّا ورومانسيّا، في غضون ذلك، سيتمكن القرّاء من قراءة خطاب غارسيا ماركيز في ليلة تسلّم جائزة نوبل، مرافعة متحمّسة لأمريكا لاتينيّة حيث”عزلتها في مواجهة القمع والنهب والخذلان”، وصف لا يختلف كثيرا عن  عالم عربي اليوم . 

بتاريخ 10 / 12 / 2020 . 

النص مترجم من مادة منشورة في موقع (https://comptoir.org/

الرابط : https://comptoir.org/2019/03/19/gabriel-garcia-marquez-et-la-solitude-de-lhomme-arabe/ 

شارك المقالة