الوباء والعولمة

Глобализация и пандемия

مكان وتاريخ النشر: مجلة توبوس الروسية، 25/1/2021

الكاتب: سيرغي ايفانوف

مواليد عام ١٩٦١، يحمل دكتوراه في الفلسفة، أستاذ الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية.

ترجمة: محمود إبراهيم الحسن

كاتب ومترجم سوري

ترجمة حصرية لموقع ترياق

أصبح الحديث عن العلاقة بين الوباء والعولمة أحد المحاور الرئيسية في الأوساط العلمية لعام ٢٠٢٠، ولم يكن الشهر الأخير منه استثناءُ، وكما في بداية كل عام جديد ظهرت تقييمات نهائية لما حدث في العام الماضي، وملاحظات تشير إلى التوصل إلى نتائج قيمة لا يواريها الشك، لكن في الوقت نفسه هذه النتائج كانت انفعالية، وبنتيجتها تحولت العلاقة بين “الوباء والعولمة” من مادة تحليلية إلى مشكلة انفعالية. 

لكن رغم كل الآراء الانفعالية؛ لم يتوصل  التيار الرئيسي للعلوم السياسية إلى تقييمات متشابهة حول الوباء. انقسم المجتمع إلى فريقين متناقضين يشتركان فقط في الحماس والاستنتاجات القطعية. يعتقد ممثلو الفريق الأول أن الوباء قد قضى على العولمة، وقد حان الوقت للانتقال إلى ما بعد العولمة، بينما ردة فعل خصومهم في الفريق الثاني جاءت أقل انفعالية حيث يرون أنه وبسبب الوباء سنشهد في الوقت القريب إعادة هيكلية للعالم، مع تطور العولمة لتصبح أكثر راديكالية.

أظهر الواقع مجدداً عظمة وانسجام الأدب مع الواقع، كان جورج أورويل أحد أهم الكتاب المقروئين في العام الماضي، لقد استشهد بأفكاره كل من مؤيدي العولمة ومعارضيها، حيث يمكن التحاور حول نهاية العولمة، أو بالعكس انتصارها، وفي النهاية العودة إلى الأفكار كتابه “١٩٨٤”. 

في الأوساط العلمية الروسية ترجح كفة المؤيدين لفكرة أن الوباء قضى على العولمة على كفة معارضيها. ويمكن تفهم سبب ذلك حيث أن الايديولوجيا الروسية الرسمية نجحت في رسم صورة سيئة للغاية عن العولمة، ووفقاً لهذه الأطروحة فإن أي سلطة اقليمية ستتولى تغيير الواقع في الاقليم الذي تديره وفقاً لرؤيتها الخاصة، وإذا لم تكن هذه الرؤية واقعية فعلى الأقل تملك خطة مستقبلية، وتبدأ بتنفيذها. ستقود الحكومات مصائر بلادها بنفسها، وبالنظر إلى أوروبا يمكننا القول الآن “وداعاً للاتحاد الأوروبي”، ومع ذلك، لا يمكننا تصديق فكرة أن هناك مصائر مستقبلية متنوعة في العالم، لذلك نقول “مرحباً جوروج أورويل”، طبعاً لكل شخص هناك “أورويل” يناسبه، لكن في نهاية المطاف كل “الأوروليون” متشابهون.

إذا تجاهلنا الأفكار الواهمة والخيالية حول نهاية العولمة فإن علينا التمعن بدقة في المبررات المنطقية لهذه الأطروحة.

 طفت على السطح تفاصيل سطحية يدعي أصحابها أن العولمة قد انتهت في جميع أنحاء العالم فالحدود أُغلقت، وتوقفت الملاحة الجوية في كل المطارات. تم الحكم على أشياء كبيرة من خلال أشياء صغيرة. مثلاً توقف عجلة التاريخ العالمي عن التسارع تم اختزاله في معاناة السائح حيث تسللت هذه المعاناة إلى القنوات التلفزيونية الرسمية “لن نستطيع السفر إلى لندن غداً يا عزيزتي، ضاعت كل أحلامنا… وتبخرت” وعلى المشاهد المحلي أن يتقبل هذا الهراء.

لكي ننجح في تشخيص العولمة (أصبحت المصطلحات الطبية شائعة في هذه الأيام) علينا أولاً أن نحدد الاتجاهات الرئيسية التي تظهر العولمة من خلالها، وفي إطار هذه المهمة يجب أن نشير إلى أن حركة الناس عبر الحدود والمطارات هي أبعد ما تكون عن التوجه الأساسي للعولمة.

العولمة هي في المقام الأول:

  • حرية تبادل المعلومات.
  • حرية حركة رؤوس الأموال.
  • حرية نقل البضائع. الحرية في هذه الحالة لا تأخذ في الاعتبار (أو تأخذ في الحد الأدنى) وجود مصالح وحدود اقليمية للدول. وعند تحقق هذه الثيمات الثلاثة يمكننا إضافة الثيمة الرابعة لها وهي:
  • حرية حركة السكان. 

وبموازاة هذه الثيمات الأربعة للعولمة يمكن ملاحظة ثيمة أخرى لها والتي تتلخص في ظهور نخبة من نوع جديد، تتميز بشكل رئيسي بالعالمية المتكاملة فيما بينها على المستوى العميق والبنيوي، وبالتالي؛ إعطاء الأولوية لمصالحها الاقتصادية الخاصة على المصالح الأخرى بما فيها المصالح الوطنية أو الاقليمية.

ووفقاً لمفهوم العولمة يمكن طرح السؤال التالي: كيف أثر الوباء على العولمة؟ الجواب واضح  على الأرجح أنه لم يؤثر فيها.

          كيف أثر الإغلاق الشامل على عمل شبكات المعلومات؛ بالنسبة للأشخاص الذين يقضون فترة الحجر الصحي فإن حاجتهم للمعلومات الخارجية تزداد بشكل كبير، ونتيجة لذلك تزداد الأحمال على الشبكات، وبالتالي يتطلب تطوير كل أشكال التقنيات الاليكترونية لكي تساهم بدورها في تطوير ديناميكية الفضاء المعلوماتي.  

تحدث الابتكارات الكبرى في المجال التقني أثناء الحروب، وأصبح الوباء بالنسبة للفضاء المعلوماتي هو بمثابة “محاكاة” لأزمنة الحروب، وأصبح هذا الفضاء أكثر تطوراً مدفوعاً بتحدي مواكبة زيادة الطلب عليه، وقد وصله تنبيه لضرورة متابعة التطور مستقبلاً. اليوم؛ أتقن الكثير من الناس استخدام خدمة سكايب، وزوم، ومتصفح “تور” التي لم يكن الغالبية يعرفون شيئاً عنها قبل عام، ووجدت الشركات والمؤسسات منافذ جديدة لها في الفضاء المعلوماتي الافتراضي لم تكن بحاجة إليها سابقاً.

يمكن بالطبع تذكر العلاقة المتوترة بين ترامب وتويتر، ومراقبة ما يفعله جمهور الديمقراطيين اليوم مع الترامبويين، وشبكاتهم الإعلامية، لكن أعتقد أن سبب هذا الانتصار الجديد للديموقراطية ليس مرتبطاً بالوباء، أو بمواجهة العولمة.

إن الوباء لم يُوقِف (أو لم يستطع إيقاف) حركة رأس المال، بل بالعكس؛ أجبر تفاقم حالة عدم الاستقرار في الأسواق مالكي الأموال على الاستجابة السريعة وبمرونة أكبر للحالة الاقتصادية المتغيرة بسرعة. لعب رأس المال دور القوة القاهرة في السوق، وتحرر من القيود المحلية.

لا شك أن عام ٢٠٢٠ شهد الكثير من الحالات التي كان على رؤوس الأموال الضخمة فيها أن تشارك في مشاريع وطنية لكن كانت هذه المشاريع غالباً مؤقتة، إضافة إلى ذلك؛ تلقت ضمانات من الحكومات بتخفيض التكاليف، وتقديم تعويضات لبعضها.

بالطبع؛ إذا نظرنا إلى العام الماضي فسنلاحظ أن الحكومة الروسية قد واجهت وبقوة عمليات خروج رؤوس الأموال، لكن هذه المواجهة هي امتداد لإجراءات قامت بها الحكومة قبل الوباء، أما خارج روسيا فيستحيل القول أن المواجهة مع مناطق التجارة الحرة و”الأفشور” قد زادت حدتها. لقد بقي الوضع على حالة في هذه المناطق كما كان قبل تفشي الوباء.

نبدو غير منطقيين إذا قلنا أن الإغلاق التام تسبب في أزمة حقيقية لعملية حركة وتبادل المنتجات، لأنه على الأقل في بلدان المركز الاقتصادي قد تجاوزوا منذ فترة لابأس بها مرحلة تراجع التصنيع، وعدم كفاية منتجاتهم الخاصة للمستهلكين المحليين. بالنسبة لهم يعد استيراد المنتجات ممكناً في أي وضع، خاصة وأن الإغلاق التام ليس هو الوقت المناسب لبناء مصانع جديدة، وحتى لو أنشأت هذه المصانع فإن منتجاتها ستخسر المنافسة في السوق المحلية لسبب بسيط وهو أن تكلفة اليد العاملة في أوروبا تختلف تماماً عن نظيرتها في الصين، وتكلفة اليد العاملة تؤثر بشكل كبير على سعر المنتج.

لو افترضنا في ذات الوقت أن الدول الأوروبية وجدت الرغبة في إعادة التصنيع؛ سيبقى السؤال مطروحاً حول مستوى جاهزية المستهلك الأوروبي لإعادة التصنيع. يمكن هنا إيراد مثال عن الطرح الذي قدمته وسائل الإعلام الروسية قبل فترة وجيزة وحتى لو كان هذا الطرح لغاية أخرى؛ حيث قالت وسائل الإعلام إن مصففات الشعر يمكن أن يعملن كسائقات جرارات أو في المطاحن في المستقبل القريب (كان الحديث حول  المهن النسائية)، لكن لا أستطيع أن أتخيل طابوراً طويلاً من مصففات الشعر وهن واقفات أمام مدارس تعليم قيادة الجرارات، أو أمام المطاحن.

الانعكاس الحقيقي للوضع الراهن في مجال الحياة الاقتصادية لم يتمثل في إعادة التصنيع في أوروبا، بل في التحضير لاتفاقية جديدة بين الاتحاد الأوروبي والصين والذي بموجبه أصبحت الفرصة متاحة أمام الصادرات الصينية إلى أوروبا للتوسع أكثر.

سياسة الهجرة بدورها نالت نصيبها من التغيرات بسبب إغلاق الحدود لكنها لم تغير الخطوط العريضة لتوجهاتها. فقط ألمانيا وحدها استقبلت في عام ٢٠٢٠ مئة ألف مهاجر جديد في ظل الوباء، والوضع في روسيا يبدو أكثر وضوحاً حيث أزيلت القيود المفروضة على الإنشاءات في موسكو التي توسعت بشكل ملحوظ في موسكو وريفها، لكن لنتساءل من الذين يعملون في حقول الإنشاءات في موسكو وريفها؟  الهيئة الفيدرالية للحسابات المالية في روسيا في خططها حول التوجهات المستقبلية لسياسة الهجرة تؤكد بصريح العبارة أن المهاجرين سيمثلون العمود الرئيسي في عملية التطوير الديموغرافي في روسيا.

معدلات نمو النخبة الاجتماعية هي أيضاً لم تهبط؛ حيث ازداد الأغنياء ثراءً، والفقراء بالتالي ازدادوا فقراً، وفي نفس الوقت زادت معدلات نمو رؤوس الأموال الضخمة أكثر من نظيرتها المتوسطة التي نمت بسرعة أكبر من رؤوس الأموال الصغيرة، وهذا الرأي أيدته بقوة مجلة “فوربس” في ربيع العام الماضي. 

لنعد من جديد إلى ديستوبيا أورويل؛ يمكن هنا التذكير بالانتهاكات المتزايدة للحقوق الديموقراطية والاجتماعية للأفراد (هذا الموضوع مناسب لدول المركز الاقتصادي) لكن في هذه الحالة من الضروري أيضاً أن ندرس هذه الانتهاكات قبل حدوث الوباء. لقد تقلصت هذه الحقوق بشكل كبير منذ عام ١٩٩١. منذ نهاية الحرب الباردة أصبح اهتمام رأس المال الغربي بمقاومة الشعوب الأوروبية يقل تدريجياً.

كما يقول منظرو الليبرالية الجديدة إن “نهاية العالم” قد حانت فالأخطار المهددة لرؤوس الأموال المتمثلة بالاتحاد السوفييتي قد انتهت. لقد تقابلت رؤوس الأموال الغربية وبيئة العمل الغربية وجهاً لوجه، وهذا يعني أن عالم الأعمال أصبح واضحاً بلا أي تكلف. بدأت الحقوق الاجتماعية والسياسية بالتراجع، والانتهاكات النسبية التي حدثت في عام  ٢٠٢٠ تتناسب مع هذا التوجه. يتم النظر إلى هذه الانتهاكات على أنها مؤقتة، وغير اعتيادية، لكن في النهاية يمكن القول أن الوباء لم يدفع إلى إجراء أي مراجعات للحقوق الأساسية على مستوى العالم.

في الواقع إن العولمة تتطور على المستويات الاقتصادية والاجتماعية. في بعض المجالات كان تطورها متسارعاً جداً (مثل شبكات المعلومات، وحركة رؤوس الأموال) لكنه كان أبطأ في مجالات أخرى (مثل الهجرة). هذه الاختلافات في سرعة تطورها لا تمثل مشكلة بحد ذاتها، ويمكن تفسيره بناء على فكرة أن العولمة في الأساس ليست ايديولوجيا كما يرى ألكسندر دوغين في كتابه “ما بعد العولمة، نتيجة حتمية”.

 ترتبط الأسباب الرئيسية للعولمة بطريقة تشكل رأس المال، تحديداً رأس المال، وليس الأشخاص، أو الأشياء، أو المعلومات؛ رأس المال هو المكون الأساسي لهذه الظاهرة، وهذه الفكرة متوائمة مع فكرة نمو رأس المال الذي عندما ينمو يتخطى الحدود الوطنية والقومية، ويأخذ طابعاً عالمياً، وهو الوسط الذي تنشط فيه الأسواق العالمية، لذلك فإن الفهم العميق لطبيعة رأس المال هذا تعني أنه تجاوز الحدود الوطنية، أو إذا استخدمنا المصطلحات الايديولوجية فإننا نستطيع القول أن رأس المال أصبح جزءاً من الليبرالية الجديدة.    

في إطار النظام الرأسمالي العالمي فإن التوجه الحالي لرأس المأل يبدو هو الوحيد المتاح الآن. في النظام السائد حالياً تمثل الإحداثيات الجغرافية التحدي الرئيسي لوضع العملية القائمة، وبالتالي؛ الحديث عن نهاية العولمة بشكلها الحالي يمكن فقط في حالة موت رأس المال، الذين “يطربون” لفكرة نهاية العالمية لا يحبذون الحديث عن هذه النقطة بالذات.

الادعاء بأن الوباء هو السبب في الانتصار الغير مشروط  للعولمة لا أساس له من الصحة، وفي نفس الوقت الادعاء بأنها انتهت. يمكن توجيه السؤال التالي لمؤيدي فكرة انتصار العولمة، والذين لا يبالون بما يحدث في المجال السياسي: ما الذي تغير على مستوى العالم عام ٢٠٢٠؟

حافظت الدول على كيانها حتى في هذا الوضع غير المستقر، إضافة إلى ذلك؛ تمتعت هذه الدول باستقلالية أكبر حتى لو بشكل نسبي. المؤسسات الدولية المنظمة للاقتصاد العالمي تابعت عملها، ولم تنهار المجتمعات السياسية، وحتى في عالم المعلومات لم تحدث ثورة تقنية.

يمكن الحديث عن تقلص دور القطاع الخاص الاجتماعي، وإفلاس أصحاب المشاريع الصغيرة. كقاعدة عامة؛ يرتبط انتصار العولمة بالسيطرة الغير محدودة  للاحتكارات، وبالشمولية الاقتصادية. تتلاءم خسارة الشركات الصغيرة والمتوسطة مع هذا النموذج، لكن في هذه المجالات كانت “انتصارات” العولمة متواضعة جداً، وتوقف إلقاء اللوم على المجتمع مؤقتاً. في روسيا مثلاً؛ اعترفوا بأن سياسة التطوير في المجال الصحي كانت خاطئة، وإذا تحدثنا عن مصير الشركات الصغيرة؛ وإذا أخذنا الأحداث التاريخية في الاعتبار؛ فإننا سنصل حتماً إلى الفكرة الهزيلة التي يتمثل جوهرها في مقولة: “المكان المقدس لا يبقى فارغاً”لكن الشركات الخاصة ملأت الفجوة التي لم يكن لوجود رؤوس الأموال الضخمة فيها أي جدوى اقتصادية. 

لكن دائماً هناك حالات خاصة حيث استطاعت الشركات الصغيرة في مجال الإعلانات مثلاً أن تنافس الشركات الكبيرة، أو على الأقل خرجت من هذه المنافسة بدون خسائر. عمل الشركات الخاصة مرتبط بالأساس بقطاعات اقتصادية معينة والتي تتطلب من أصحابها اتخاذ قرارات نوعية وفردية. بالنسبة للشركات الكبيرة يبدو هذا النهج غير مُجدِ اقتصادياً. من الأفضل للشركات الكبيرة أن تبني سلسلة من المتاجر الصغيرة وهي بهذا تتسبب في إفلاس مالكي المتاجر الصغيرة ( تم تنفيذ هذا الإجراء بنجاح منذ فترة طويلة في روسيا)،  وهذا أكثر جدوى من تجهيز شبكة من المقاهي أو الألعاب الرياضية في جميع أنحاء المدينة.

أفلست الكثير من الشركات الخاصة بسبب الأزمة، لكن أماكنها في السوق بقيت شاغرة، وبالتأكيد سيأتي من يحل محلها بعد التخلص من الوباء، وبنفس قيمة رؤوس أموال هذه الشركات.

لم تخسر الشركات الخاصة دائماً في زمن الأوبئة والأزمات. في روسيا؛ كانت البنوك والشركات المحتكرة للسوق وحتى البورصات من بين الأكثر تضرراً، أما في ألمانيا فأعلنت الحكومة أن دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة هو أولوية بالنسبة لها، وهذا ما حدث في دول أوروبية أخرى، ونتيجة لمثل هذه الإجراءات أصبحت هذه الدول مديونة بمبالغ ضخمة مما سيؤدي إلى تسخين قادم للأسواق العالمية.  

حتى عمليات “تنميط” الحياة المصاحبة للعولمة لم تشهد أي تطور في ظل الوباء، بل أحياناً حدث العكس. كمثال على ذلك أعلنت إدارة بلدية موسكو بكل فخر في وسط شهر يناير ٢٠٢١ أنه وبفضل تقنية المعلومات الرقمية المتطورة استطاع سكان الأحياء الصغيرة في موسكو أن يؤثروا بآرائهم عبر التصويت في تغيير المظاهر الخارجية لأحيائهم.

كان العام الماضي صعباً وثقيلاً على المتاحف والمؤسسات الثقافية، لكن أتيحت لها إمكانيات تقنية جديدة على هيئة تعويضات، وهي ستستخدمها بكل تأكيد بعد نهاية الوباء.

قد تكون الأعمال المكتبية والتعليم هي الأكثر تأثراً بالوباء في العام الماضي، لكن بسرعة كبيرة اكتسب “العمل عن بعد” الحماية القانونية اللازمة. يتعامل غالبية مدراء الشركات مع العمل عن بعد على أنه مؤقت. لقد أظهر الوباء أن وجود الموظفين في نفس مكان العمل هو أكثر فاعلية، لكن مع الإمكانيات التقنية الحديثة والمتطلبات القانونية التي تسمح بإنقاذ هذه الشركات من شبح الإغلاق. هذه الشركات اليوم غير قادرة على دفع إيجار مكاتبها، ووضعها الراهن يذكرنا بتاريخ التنافس الطويل بين المصانع المركزية الكبيرة، والمصانع المتوزعة هنا وهناك حيث تغلبت الأولى في تلك المنافسة. 

فيما يتعلق بالتعليم فقد تبين أن هيكلية التعليم الأساسي لم تكن مهيئة للانتقال طويل الأمد إلى التعليم عن بعد، لذلك سيبقى التعليم عن بعد مجرد حلقة جميلة في ذاكرة الطلاب والمعلمين (لذلك صرخ بعض المتسرعين بأن التعليم في روسيا قد انتهى ليعيدوا ما حدث في عام ١٩٨٤  ،التعليم الأساسي في روسيا ذاهب إلى الفشل لكن ليس بسبب كوفيد-١٩). بالنسبة للتعليم الجامعي فإنه يتراجع قبل عام ٢٠٢٠، واستمر في التراجع عام ٢٠٢٠، وكما يقولون الكلاب تنبح، والقافلة تسير.

طرأت تغيرات جوهرية في إعادة التوزيع الفرعية لرؤوس الأموال. لقد أولت الكيانات الاقتصادية الكبيرة مدعومة من السياسيين اهتماماً كبيراً بعلم اللقاحات. وهناك سبب واضح لهذا الاهتمام: المواجهة مع فيروس كورونا تعد بالكثير الكثير من المال، ومن هنا نشبت “حرب اللقاحات” التي ما تزال في بدايتها، والمعيار الأساسي لنجاح لقاح “فايزر” أو “سبوتنيك” من وجهة نظر رأس المال ليس في عدد الأشخاص الذين سيحميهم من الوباء، بل بمقدرة هذا اللقاح أو ذاك على كسب الكثير من المال، ومن هنا تدفقت كميات هائلة من المعلومات الزائفة، وحملات تهدف إلى الإضرار بسمعة المنافسين، ودعوات إلى الحكومات “بفرض الحظر والإغلاق التام”. لا يمكن تقدير حتى بشكل تقريبي حجم الأرباح من الأدوية الوبائية، لكن تحقيق بعض “المكاسب” واضحاً جداً اليوم.

ذكرت مجلة “فوربس” في ديسمبر عام ٢٠٢٠ أن خمسين شخصاً جديداً قد أصبحوا في قائمة أغنى أثرياء العالم خلال السنة الماضية (وهذا الرقم ليس كبيراً بالمناسبة، لكن المفارقة تكمن في المعلومة التالية). ذكرت المجلة أيضاً أن غالبية هؤلاء الأثرياء الجدد يعيشون في الصين، وهذا ما يؤكد من جديد أن النخبة الجديدة لم تعد مقتصرة فقط على الغربيين. إن مزاعم وسائل الإعلام الغربية حول تفوق الحضارة الغربية هي فقط تخيلات وأوهام إعلامية للتغطية على الواقع الحقيقي، وعندما يعلن المحللون الغربيون أن “نهاية النخبة الغربية” تعني نهاية العولمة فإن هذه الفكرة تبدو ساذجة. العولمة في الواقع لا تعترف بالقومية أو العرق، ومع ذلك؛ فإن نسبة مساهمة الغربيين في النخبة الجديدة بقيت مرتفعة.

لكن انتقال رأس المال حتى ولو بشكل كبير من مجال إلى آخر هو عبارة عن تمتين العملية بالمجمل، لذلك كما بدأت العولمة قبل الوباء فإنها ستستمر في مرحلة ما بعد الوباء. 

الهيستيريا حول آثار الوباء يجب أن تملك أسباباً مقنعة، وشروحات. لعبت القصص الإخبارية المستحدثة دوراً مهماً في تكريس هذا النوع من المشاعر المرتبكة. الوباء بدوره أتاح إمكانية كبيرة للدعاية والعلاقات العامة، ومنذ ربيع العام الماضي فقدت السلطات السياسية القدرة على مراقبة المعلومات، وحدثت سلسلة من ردود الأفعال التي زادت من حدة الخوف والفلق، وفي هذا الوقت بالذات أصبح الرأي القائل بأن الوباء بمثل نهاية حقبة تاريخية واضحاً جداً. 

لكن لا يمكن تفسير رد الفعل العفوي لوسائل الإعلام حول هذا الموضوع، ومع حلول خريف عام  ٢٠٢٠ قامت وسائل الإعلام الكبيرة التي تديرها الحكومات أو الشركات الكبيرة بمبادرة من عالم المدونات، وحولوا موضوع نهاية الحقبة التاريخية لأن يصبح الترند الرئيسي لهذا العام.  أظهرت السرعة والطريقة المنظمة التي حدث فيها هذا الأمر أن وسائل الإعلام الكبيرة تؤدي المهمة المرسومة لها بدقة من قبل مالكيها الحقيقيين.

بالطبع؛ التحدث عن الأسباب الحقيقة لهذا الأمر يمكن فقط فرضياُ، لكن يجب أن نشير إلى حقيقة أن الانطباع المتأثر بالمستقبل قد أخفى خلفه السبب الحقيقي لهذه الحالة التي فرضت نفسها على الاقتصاد العالمي مع نهاية العام ٢٠١٩، وهذا الوضع ليس مناسباً بأي شكل من الأشكال.

 رؤساء المنتديات الاقتصادية الكبرى، وكبار المحللين الذين اتخذوا موقفاً دفاعياً واضحاً في تقييمهم لحالة الاقتصاد العالمي أصبحوا الآن فجأة يتحدثون وكأنهم في جوقة واحدة عن حجم الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد العالمي، والتي سيتولد عنها إحباط كبير.

أسباب الأوبئة والكوارث مرتبطة بتسخين الأسواق الاقتصادية، ونموها الملائم لحالة “الحياة مع الديون”، في الواقع؛ قطع رأس المال شيئاً فشيئاً علاقته بعمليات الانتاج على أرض الواقع، أما ارتفاع قيم الأسهم وترتيب الأرقام في السوق المالية فقد دخل في صراع مفتوح مع الواقع. كان لا بد من انفجار “الفقاعات” المالية التي تضخمت خلال وقت قصير، حدث هذا قبل خمس أو سبع سنوات لكن كان يجب أن يحدث قبل ذلك بكثير. غالبية دعاة القلق من الأزمة الاقتصادية العالمية لم يتحدثوا في نهاية العام الماضي عن استمرارها لأعوام، بل فقط عدة أشهر. حدث ركود اقتصادي نتيجة المشاكل في الأسواق العالمية، وبسبب هذا الركود اضطرت الإدارات الإحصائية في الدول الكبرى لإظهار اللباقة في طريقة عرضهم للإحصائيات كي لا تتسبب هذه الإحصائيات في حالة من الإحباط العام. وجه الوباء ضربة قاسية للأسواق الاقتصادية، والتي بنتيجتها انفجرت التضخمات المالية أو أنها على الأقل تقلصت. يمكننا القول أن الوباء خفف من حدة المشاكل الاقتصادية، لكنه في نفس الوقت لم يزل أسباب هذه المشاكل، هذا يعني أن الأسواق الاقتصادية ستواصل نموها بعد انتهاء الوباء، وخلال وقت قصير سيعود الوضع إلى ما كان عليه في نهاية عام  ٢٠١٩.

يمكننا القول اليوم، وبثقة كبيرة؛ أن الوباء قد أنقذ العالم من كارثة اقتصادية كبيرة، ويمكننا القول أيضاً وبثقة أكبر بأن هذا الإنقاذ لن يستمر لفترة طويلة حيث إن الآليات التي كان يعمل بها الاقتصاد العالمي بقيت على حالها دون تغيير، وعندما ستتابع عملها قريباً  فإنها ستواجه نفس المخاطر التي كانت قبل فترة الوباء، وقد يكون قرار منظمة الصحة العالمية  بتمديد فترة الوباء إلى عام آخر متعلقاً بهذا الأمر، وبحسب مؤيدي هذا القرار، والذين هم على الأغلب من خارج منظمة الصحة العالمية فإن هذا القرار يجب أن يحافظ على التوجه نحو ركود الأسواق الاقتصادية.

لكن لا يمكن للاقتصاد أن يتحمل الإغلاق التام لفترة طويلة، ولا يمكن للتدابير المؤقتة والاستثنائية أن تحل محل الدائمة، ومتى انتهى الوباء فإن الأسواق المالية  ستنجح في تعويض ما فاتها، وبوتيرة سريعة.

ستتفاقم هذه المشكلة مستقبلاً لأن الحكومات قد دخلت بنشاط في المخاطرات المالية. التدابير التي اتخذت لدعم القطاعات الاجتماعية والشركات الصغيرة أدت إلى زيادة قوية في نسبة عجز الميزانية، وسترتفع هذه النسبة أكثر في المستقبل القريب. تلقى القطاع الصحي دعماً غير كافٍ في كل الدول، والآن يجب تقديم دعم إضافي له، هذه القضية معقدة أكثر في أوروبا لأن نسبة المسنين مرتفعة هناك، وبالتالي؛ فإنهم معرضون لكوفيد ١٩ بشكل أكبر مما يتطلب دعماً مادياً أكبر.

يجب على الحكومات أن تستمر في دعم القطاع الخاص، والمشاريع المتوسطة الحجم، وإلا فسوف يشهد الاقتصاد موجات من الإفلاس، وارتفاع مخيف لنسبة البطالة. لكن السؤال هو: من أين تأتي النقود؟ الجواب له عدة احتمالات: يمكن أخذ المال من خلال تطوير نظام القروض لكن عندما تتوسع سياسة القروض فإن ذلك يترافق دائماً مع خطورة ارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع معدلات التضخم سيؤثر بشكل إضافي على التسخين اللاحق للأسواق.

مجموعة الاقتصاديين الذين حللوا هذه  المسألة دعوا إلى فرض سياسة حمائية  شديدة، لكن الحمائية لا تلغي كل المخاطر، وفيما يتعلق بعمليات التضخم فإنها الحمائية قادرة على تعزيزها بشكل كبير.      

إن المشكلة الاقتصادية العالمية في قادم الأيام ليست بسبب الوباء، بل بسبب طريقة تشكل رأس المال، ومتى ما عاودت الرأسمالية نشاطها، وبدأت بالهيمنة على المضاربات المالية فإن الأزمة المالية ستكون هي النهاية الحتمية لتاريخ الاقتصاد بشكله الرأسمالي، ولأن رأس المال له طابع عالمي فإن الأزمة ستكون عالمية، والخروج منها مع الابقاء على الرأسمالية هي قضية إشكالية.

قد تبدو مشاكل الرأسمالية وحتى انهيارها المحتمل متعارضة مع نهاية العولمة. لن تتمكن فترة ما بعد الرأسمالية منع تفاقم هذا التعارض، لكن ستظهر من خلالها إمكانيات جديدة لملء تلك المرحلة بمحتوى جديد بديل عن الرأسمالية. في كل الأحوال لا تتطور التقنيات من تلقاء نفسها دون أن تتأثر بالعمليات الاقتصادية والاجتماعية العميقة، وإذا تم تحديد النموذج الرأسمالي للاقتصاد في ظل العولمة فإن مرحلة ما بعد الرأسمالية لديها القدرة على إخضاعها لأهداف وعوامل التطوير الاجتماعي،  لكن ما تزال هناك الحاجة للاستفادة من هذه الإمكانية.

رابط المقال الأصلي

شارك المقالة